وضع داكن
30-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 021 - الإفتقار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الفقر:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الواحد والعشرين من دروس منازل السالكين، في مراتب إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، ومنزلة اليوم منزلة الفقر.
أيها الإخوة الأكارم؛ من عَرَفَ نفسهُ عَرَفَ ربه، الإنسانُ أولُ صِفة من صفاتِهِ أنهُ مُفتقرٌ إلى ربهِ، فإذا استغنى عن ربهِ فقد وقعَ في شرِّ أعمالِهِ، لذلك حقيقة العبودية هي الافتقار إلى الله عزّ وجل، حقيقة الإنسان هي أنهُ فقير، حقيقة هذا المخلوق الذي سخّر الله لهُ الكونَ من أجلهِ أنهُ مُحتاجٌ إلى اللهِ في كلِّ شيء، فلذلك حينما يغيبُ الإنسانُ عن هذه الحقيقة، حينما يغفلُ عنها، حينما يظنّ نفسهُ على خِلافِ ما هوَ عليه فقد وقعَ في جهلٍ كبير. 
 

الجهل والعلم والفرق بينهما:


يا إخوة الإيمان؛ تعريف الجهلِ في أبسطِ تعاريفهِ أنهُ ما خالفَ الواقع، أي إذا قُلت: هذا إبريق ماء، هذا الكلام فيهِ جهل، إذا قلت: هذا كأس حليب وهو ماء، هذا الكلام فيهِ جهل، ما تعريفُ الجهل؟ ما كانَ خِلافَ الواقع، فأنتَ لكَ واقع، لكَ واقع راهن، حقيقة صارخة، شِئتَ أم أبيت، أحببتَ أو كرهت، لمجرد أن تتوهم أنكَ على خِلاف ما أنتَ عليه فأنتَ قد وقعتَ في جهلٍ كبير.
بالمناسبة ما تعريفُ العِلم؟ إدراكُ الشيء على ما هو عليه بدليل، أي إذا رأى الطبيب أنَّ ارتفاع الحرارة وارتفاع الضغط مؤشرانِ لمرضِ كذا، وكانَ ارتفاع الضغطِ وارتفاع الحرارة مؤشران على مرضٍ آخر، فإذا شخّصَ مرضاً غيرَ المرض الذي يُعانيه المريض فهذا التشخيص فيه جهل، أي يجبُ أن نعلمَ ما الجهل؟ في مراتٍ سابقة عرّفتُ العِلمَ بأنهُ علاقةٌ ثابتة بينَ شيئين مقطوعُ بصحتها، يؤكدّها الواقع، عليها دليل. 
علاقةٌ بينَ شيئين أي قانون، كلُّ المعادنِ تتمدد بالحرارة، مقطوعٌ بصحتها، لو لم يكن مقطوعاً بصحتها لكانَ الوهمُ والشكّ والظن، يؤكدها الواقع، لو لم يؤكدها الواقع لكانت جهلاً، عليها دليل، لو لم يكن عليها دليل لكانت تقليداً، ما التقليد؟ حقيقةٌ تفتقرُ إلى دليل، ما الجهل؟ ما خالفَ الواقع، ما القطع؟ ما كان بعيداً عن الشك والوهمِ والظّن، هذا هو العِلم، فيجب أن نعلم، يجب أن نعتقد أنَّ العِلم إدراكُ الشيء على ما هوَ عليه، فَهمُ هذه الآية كما أراد الله، حُكمُ هذه القضية كما جاءَ بهِ رسول الله، حقيقة الكون كذا، حقيقة الإنسان كذا، حقيقةُ الحياة الدنيا كذا، حقيقةُ ما بعد الموت كذا، ما قبلَ الموت كذا، حقيقةُ المال لهُ دورٌ معين، أي إذا أدركتَ كلَّ شيء على ما هو عليه فأنتَ عالِم، لكن لو أردتَ أن تُحدِّثَ الناسَ بهذا الشيء لطالبوكَ بالدليل، إذاً إذا أدركتَ الشيء على ما هو عليه ومعكَ الدليل فأنتَ عالِم. 
ويا حبّذا لو أنَّ دِماغنا أو فِكرنا أو عقلنا -كما يقول الناس-محشوٌ بالحقائق، المشكلة أنك تجد رجلاً دماغهُ محشوٌ بالأباطيل، بالأوهام، بالخرافات، بالجهل، الجهل شيء، قد تفهمُ الجهلَ فهماً بسيطاً، قد تفهمُ الجهلَ عدمُ المعرفة، لا، الجهل معرفة لكنها مغلوطة، الجاهل إنسان يعلم، لكن يعلم أفكاراً ومقولات لا علاقة لها بالواقع، أي إذا أردتَ أن تُلقي ماءً معَ مِلح في طريقِ زوجٍ لعلهُ يُحبّ زوجتهُ، هذا جهل، لأنهُ لا علاقة أبداً بينَ هذا وذاك. 
أحد عُلماء دمشق الأكارم توفي رَحِمهُ الله، له كرامات كثيرة، فجاءهُ أحد طُلّاب العِلم، وقال له: يا سيدي! أرجوكَ رجاءً حاراً أن تأخذني إلى الحج، أن تدفعني، هو يظنّ هذا الأخ أن هذا الشيخ لهُ كرامات، فإذا دفعهُ بظهره صارَ في مكة، وفي مكة يوفّر نفقات السفر ورسوم الدخول وما إلى ذلك، ثم يجذِبهُ إلى الشام، فلما طلبَ منهُ هذا الطلب نظرَ إليه، رآهُ جاهلاً، قالَ له: غداً تعالَ إليّ، أخذهُ إلى التكية السليمانية، وأمرهُ أن يحلِفَ يميناً بالطلاق ألا يقولَ لأحدٍ ما سيجري معهُ، وحلفَ هذا اليمين، وأوقفهُ على حافة البحرة الكبيرة في هذا المسجد، ودفعهُ إلى الماء، إذا كان هناكَ إمكان أن تنفي عن ذهنكَ كُلَّ الجهل، ما معنى الجهل؟ معلومات غلط، نحنُ أُمةُ محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة، شيء جميل، إذاً لنفعل ما نشاء، هذا هو الجهل،

(( عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ، قَالَ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي. ))

[ صحيح البخاري ]

إذاً إذا تعلّقتَ بِفكرةِ أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يشفعُ لكَ، وأنتَ واقعٌ في ذنوبٍ كثيرة فهذا جهل، إذاً هذا الذي أرجوه في هذا الدرس، أن تعلم أنَّ حقيقة العِلم إدراكُ الشيء على ما هو عليه بدليل، وأنَّ طبيعة الجهل إدراكُ الشيء على خِلافِ ما هوَ عليه.
أبسط مثل؛ أنتَ عِندكَ مركبة، قيل لكَ: هذا الضوء الأحمر في علبة السرعة إذا تألّق معنى ذلك أنهُ يُسليك، للتسلية، وحقيقةُ هذا الضوءِ الأحمر أنهُ إذا تألّق فهناكَ خطرٌ كبير، يجب أن تقف فوراً، وأن تضع الزيت في المُحرك، فإذا قُلتُ لأحدِكم: هذا الضوء يتألّق للتسلية، ليكونَ زينةً للسيارة، زينة أثناء الطريق، قد يتألق، هذا كلام فيهِ جهل، فإذا أمكنكَ أن تنفي عن معلوماتك وعن معتقداتك، وعن تصوراتك، وعن أفكارك، وعن مقولاتك، كلّ ما له علاقةٌ بالجهل، فأنتَ بطل، لذلك إذا أردتَ الدنيا فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَ الآخرة فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم. 
هذه المُقدّمة أردتُ منها أن أصل إلى أنَّ لكَ طبيعة، أن ترجو هذه الطبيعة أو ألا ترجوها، أن تُحبّها أو ألا تُحبها، أن ترضى عنها أو ألا ترضى عنها، بحثٌ آخر، أمّا أنتَ لكَ واقع، شخص عندهُ بيت، هذا البيت المتوافر في هذا الوقت، أعجبكَ، لم يُعجِبُك، كبير، صغير، مُشرق، مُظلم، أُجرة، مُلك، بحث آخر، هذا البيت يجب أن توفّق أغراضكَ وفقَ هذا البيت.
 

حقيقة الإنسان:


الآن أنتَ لكَ حقيقة أعجبتكَ، لم تُعجِبك، رضيتَ عنها، لم ترض عنها، أنتَ عبدٌ لله، مُفتقرٌ إلى اللهِ في كلِّ شيء، لا تملِكُ شيئاً، قال تعالى:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

دِماغك مُلك الله عزّ وجل، وأنتَ معك دكتوراه بالفيزياء، من أعلى جامعة في أمريكا، ربنا عزّ وجل يعمل تعديلاً طفيفاً لهذا الدماغ، تُصبح تمشي في الطريق مجنوناً، لستَ مالِكاً لدماغك، ولستَ مالِكاً لقلبك، ينبض بإحكام، الدسامات مضبوطة، لستَ مالِكاً رئتيك، لستَ مالِكاً عضلاتك، أعصابك، ﴿قل اللهم مالِكَ المُلك﴾ كلُّ شيءٍ يُملّك، الله سبحانهُ وتعالى مالِكهُ، هذه حقيقة إذا أيقنتَ بها تجد نفسكَ مُنساقاً إلى الله عزّ وجل،  لأنهُ لا يوجد غيرهِ، أي يدُ من تعمل في داخل الأعصاب؟ لو أنَّ نقطة دم تجمدت في بعض الشرايين في الدماغ، في هذا المكان شلل، بهذا المكان ذهاب عقل، بهذا المكان ذهاب ذاكرة، بهذا المكان يا لطيف، الدم بيد من؟ بيد الله عزّ وجل، فهناكَ حقيقةٌ صارخةٌ هي موضوع هذا الدرس، ما هي هذه الحقيقة؟ هي أنكَ مُفتقِرٌ إلى الله في كلِّ شيء، والله عزَّ وجل قادِرٌ على كلِّ شيء.
شخص راكب طائرة، تُحلّقُ بهِ على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم فوق أوروبا، احترقت الطائرة في الجو، وتصدّعت، وسقطت، ومات جميع ركابِها عدا راكباً واحداً، أيُعقل أن تحترق طائرة على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم فوق غابات الألب في أوروبا وأن ينجوَ أحدُ رُكابِها؟ هذا الراكب كانَ مقعدهُ مكان تصدّع الطائرة، عندما تصدعت وقع، نزلَ على خمسة أمتار من الثلج مكدّسة فوقَ أغصان من السرو، هذه الأغصان مع خمسة أمتار ثلج كانت كالوسائد التي امتصت هذه الصدمة، فنزلَ واقفاً، ﴿قل اللهم مالِك المُلك﴾ وأعرفُ رجلاً آخر، بعيداً عن الدينِ بُعداً كبيراً، مُسرفاً في المعاصي، لسببٍ تافهٍ جداً جداً وهو في أوجِ حياته، وأوجِ نشاطهِ، وأوجِ جبروتهِ، قبضهُ الله عزّ وجل، أراد أن يُعدّل مكان جهاز كهربائي على الحائط فرفعهُ قليلاً، فلما اضطر أن يستعمِلهُ طلب كرسياً، هذا الكرسي وقف عليه فدخل في مقعدهِ، أُخذَ إلى مستشفى، بقي فيها خمسةَ عشر يوماً، وتوفي في المستشفى، أي سبب تافه جداً جداً، الله أنقذ إنساناً وقع من طائرة على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم، وهذا لهذا السبب التافه قبضهُ الله عزّ وجل. 
يجب أن تعلم أنكَ فقير، أي الله عزّ وجل لأتفه الأسباب يُعطيكَ كلَّ شيء، ولأتفه الأسباب يأخذُ مِنكَ كلَّ شيء، برغي في جهاز في السيارة ما كان مشدوداً، الزيت نَزل من هذا المكان، الجهاز اضطرب، اختل، توقفت السيارة، خرج صاحِبُها ليتفقد الخلل، ضربة شمس قضت عليه، أي هذا الصانع لو أنهُ ضبط هذا البُرغي لما مات، فــ: ﴿قل اللهم مالِك المُلك﴾ مُفتقر إلى الله في كل شيء، هذا هو التمهيد لهذا الدرس، أي يوجد حقيقة واقعة، هكذا أرادها الله، ولكن قبلَ كلِّ شيء لماذا أرادَ الله أن نكونَ فقراء؟ هُنا السؤال.
الحقيقة الأولى أنتَ فقير، معنى فقير أي مُفتقر، هُناك الفقر الذي أراده الله في بعض الآيات، قال تعالى: 

﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)﴾

[ سورة التوبة ]

هذا موضوع آخر، موضوعٌ آخر بعيد عن درسنا كُلَّ البُعد، لكن حينما قال الله عزّ وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾

[ سورة فاطر ]

الأصحاء والأقوياء والأغنياء والأذكياء، كلُّ الناس، قويّهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكيهم وغبيّهم، وسيمُهم ودميمُهم، ﴿يا أيها الناسُ أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني﴾ بهذا المعنى أنتَ فقير، الآن السؤال: لماذا أنتَ فقير؟ سِرُّ سعادتنا أن نكونَ فقراء، لأننا إذا افتقرنا إلى الله أقبلنا عليه، فإذا أقبلنا عليه سَعِدنا بِقُربِهِ، أما إذا استغنينا عنهُ شقينا باستغنائِنا عنه، فلما ربنا عزّ وجل قال: 

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾

[ سورة النساء ]

أي يا عبادي أنا خلقتكم ضعفاء كي تحتموا بي، كي تُقبِلوا علي، كي تلتجئوا إلي، كي تستنجدوا بي، كي تستعينوا بي، ولو أنيّ خلقتكم أقوياء لاستغنيتم بقوتكم فشقيتم باستغنائكم.
أول فكرة: هناكَ حقيقةٌ راهنة يجبُ أن تقبلها، اقبلها أو لا تقبلها، هي حقيقة لابدَّ من أن تستوعِبها.
الفكرة الثانية: أنتَ فقير.
الفكرة الثالثة: أنتَ فقير لمصلحتك، لمصلحة سعادتك، لمصلحة دينك، لمصلحة دُنياك، لمصلحة آخِرتك، لمصلحة إقبالِك. 
 

معنى الفقر:


كلمة فقر بمعناها الشائع ليست مُرادة في هذا الدرس، إنسان دخلُهُ أقلُّ من مصروفِهِ، إنسان يُعاني ضيقَ ذاتِ اليد، إنسان يحتاج إلى مساعدة، هذا هوَ الفقير عِندَ الناس، أما عِندَ علماءِ القلوب وأنتَ في أعلى درجات الغِنى فقير، لأن ربنا عزّ وجل أحياناً يُرسل للإنسان مُصيبة لو أنهُ يملك أموالَ الدنيا، كُنتُ مرة عندَ طبيب قلب، جاءه هاتف أمامي من رجل يبدو أنهُ من أغنى الأغنياء، بعدَ أن انتهت المكالمة، الطبيب أخبرني عن ذلك، قالَ المُتكلّم للطبيب: يا أيها الطبيب إلى أيّ مكان نأخذهُ، قال لهم الطبيب: لا يوجد أمل، قال: ندفعُ أيَّ مبلغٍ مهما بلغ، قال: لا يوجد أمل، قال: نأخذهُ إلى أرقى بلدٍ في العالم، قال: لا يوجد أمل، المرض من الدرجة الخامسة، وأيّ إنسان إذا أراد أن يستأصلهُ لابدَّ من أن ينمو مباشرةً، أنا شعرت -والله اقشعرَّ بدني-شعرت أنَّ هُناكَ مصائب لا يحُلها المال ولِتملك ما تملك.
إذاً أنتَ فقير، فالذي معهُ مال، وظنَّ نفسهُ بالمال يحلّ كل مشكلة، معناها جاهل، اترك موضوع الورع والتقوى، معناها جاهل، معناها يوجد عنده معلومات غلط، هناكَ مصائب لا يَحُلّها المال مهما كانَ وفيراً. 
إذا أنتَ قوي، تركنا الغنى، ربنا عزّ وجل قادر في حالات يُمرّغُكَ في الوحل، يُذيقكَ ألوان الهوان وأنتَ قوي، أبداً، إذا أحدهم أحبّ أن يسمع قبل يومين مؤتمراً صحفياً، ثاني يوم انتحر، وزير الداخلية، وأنتَ في أعلى درجات القوة، ثاني يوم في أدنى درجات الضعف، أليس كذلك؟ فإذا قلت: أنا قوي، فأنتَ جاهل، القوي هوَ الله عزّ وجل، إذا قلت: أنا لي شكلٌ وسيم، أي غلطة واحدة، حادث واحد يشوه الإنسان، هُناك أطباء للتجميل، هُناك زرع جلد، هناك، الجمال يذهب فجأةً، والقوة تذهب فجأةً، والمال يذهب فجأةً.
يوجد رجل له قصة تكاد لا تُصدّق، رجل كرهَ الإقامة في هذا البلد، ففكر، خطط، صمم، باع معملهُ ومحله التجاري، وباع بيتهُ، وباع سيارتهُ، وجمّعَ هذه الأموال، وحوّلها إلى بلدٍ،  حيثُ البحبوحة والرخاء، يشتري البيت الفخم، ويعيش بالفوائد، يضع مبلغاً ضخماً في المصرف، فوائدهُ تكفيهِ بأعلى درجات الإنفاق، لغلطة بسيطة في إيداع المبلغ، أودعهُ باسم مستعار لليوم التالي، هذا الإنسان أدركَ أنَّ هذا المبلغ لهُ صار، باليوم التالي قال له: ليسَ لكَ عِندي شيء، فَقَدَ ثروتهُ كُلَّها في تصرفٍ أحمق، فأنا أُركّز على أنكَ فقير، أي أنتَ بقوتكَ مُفتقر إلى الله، وأنتَ قوي مُفتقر، دعكَ من الضعيف، وأنتَ قوي مُفتقر، وأنت غني مُفتقر، وأنتَ صحيح مُفتقر، ودائماً هناك حِكمة أرادها الله عزّ وجل أنهُ إذا الإنسان مُختص بأحد فروع الطب، ويعتدّ باختصاصه، ويعتني بصحتهِ عنايةً بالغة، اعتدادهُ بعِلمهِ ونسيانهُ أنهُ فقير، شيء غريب أنَّ بعضَ الأطباء المُتخصصين بأمراض الهضم يُصابون بقرحة في المعدة، بعض الأطباء المتخصصين بأمراض معينة يُصابون بالأمراض نفسها، لماذا؟ لأنَّ الإنسانَ فقير، فإذا ظنَّ أنهُ غيرُ فقير أدّبهُ الله عزّ وجل، لهذا قيل: يؤتَى الحَذِرُ مِنْ مأمَنِهِ، من اتّكل على غير الله ضلّ وذلّ، إذا أردتَ أن تكونَ أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردتَ أن تكونَ أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثقُ منكَ بما في يديك، إذاً معنى الفقر العام الشائع بين الناس، أن إنساناً دخلهُ أقل من مصروفه، يحتاج لمساعدة، هذا المعنى لا يعنينا في هذا الدرس إطلاقاً، يعنينا قولهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ .

  للمعرفة ثلاثة طرق:


الحقيقة: الإنسان متى يشعر بافتقاره؟ هُناكَ طريقان، إمّا أن تعرِفَ الله عزّ وجل وإمّا أن تعرِفَ حقيقةَ نفسك، والمعرفة لها ثلاثة طُرق، إمّا أن تتأمل، وإمّا أن تقرأ، وإمّا أن تنظر، التأمل في الكون، خالِقُ هذا الكون ضعيف؟ لا والله قوي، الكون يُنبِئُكَ ببعضِ الحقائق وأفعالُ الله عزّ وجل تُنبِئُك، أي أفعال الله عزّ وجل دائماً وأبداً يُريكَ الله لأفعالِهِ آياتٍ باهرات، يُريكَ غنيّاً افتقرَ فجأةً، ويُريكَ فقيراً اغتنى، يُريكَ قويّاً أذلّهُ الله، يُريكَ ضعيفاً أعزّهُ الله، ألم تقل جاريةٌ في قصر العزيز حينما رأت يوسفَ عليه السلام كيفَ كانَ عبداً في قصرِ العزيز، ثمَّ كيفَ صارَ عزيزَ مِصر، حينما رأتهُ في موكِبهِ قالت: سُبحانَ من جعلَ العبيدَ ملوكاً بطاعتهِ، ومن جعلَ الملوكَ عبيداً بمعصيته. 
 

على الإنسان أن يتعامل مع الحقائق لا مع الخرافات والأوهام:


الحقيقة في درسٍ سابق بيّنتُ أنَّ الإنسان بإمكانهِ أن يكشِفَ الحقائق من خِلال التجارب، ولكن متى؟ بعدَ فوات الأوان، إذاً لا قيمة لها، في الثمانين أُدرك أن القضية الفلانية هكذا، نحنُ إذا تعلّمنا العِلم، نحنُ إذا فَهِمنا كلامَ ربّنا، نحنُ إذا فَهِمنا سُنّة رسول الله، نعرِفُ الحقائق في وقت مُبكّر، نستفيدُ منها، لذلك دعاني اليوم في صلاة الفجر أن أبيّن هذه الفِكرة، أنه حينما قالَ فِرعون:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

حينما أعلنَ فِرعون إسلامهُ في نص القرآن الكريم، وقالَ: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فِرعون الذي قالَ:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

فِرعون الذي ذبّحَ أبناء بني إسرائيل، فِرعون الذي استحيا نِساءهم، فِرعون الذي قال:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[ سورة القصص  ]

هذا الفرعون، هذا الطاغية، ما الذي دعاهُ إلى أن يؤمن بأنهُ لا إلهَ إلا الله حينما أدركهُ الغرق، وأن يقولَ بالحرف الواحد: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أنا استنبطت من هذه الآية أنَّ الموضوع ليسَ أن تؤمن أو ألا تؤمن، ليسَ هذا هو الموضوع، الموضوع أن تؤمن في وقت مناسب أو بعدَ فوات الأوان فقط، هذه كلمة دقيقة جداً أقولُها لكم، الموضوع أيها الإخوة ليسَ أن تؤمن أو ألا تؤمن، لا والله ما هكذا الموضوع، الموضوع لابدَّ من أن تؤمن، والدليل أكفرُ كُفّارِ الأرض آمن، ولكن متى آمن؟ بعدَ فوات الأوان، بعد ألا ينفعهُ إيمانهُ، آمنَ وقد أمضى حياتهُ في معصية الله، فأُعيد عليكم هذه المقولة: ليسَ الموضوع أن تؤمن أو ألا تؤمن، هذه مُعادلة مغلوطة، الموضوع إمّا أن تؤمن في الوقت المناسب، وإما أن تؤمن في الوقت غير المُناسب، إمّا أن تؤمن قبلَ فوات الأوان، وإما أن تؤمن بعدَ فوات الأوان، لأنَّ فِرعون آمن وأسلم، لكنَّ الله عاتبهُ قال: 

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

[ سورة يونس ]

أيُّ طالِبٍ إذا دخلَ الامتحان، وأخفقَ في الإجابة، بمجرد أن يخرج من الامتحان يفتح الكتاب، عَرَفَ الجواب، متى عَرَفَ الجواب؟ بعدَ فوات الأوان، يأخذ الصفر وقد عَرَفَ الجواب، قضية زمن، فنحنُ قضية إيماننا بالله قضية زمن فقط، إمّا أن نؤمن ونحنُ أصحاء أشداء أقوياء في مُقتبلِ حياتنا حتى نستفيدَ من إيماننا، وإمّا أن نؤمن بعدَ فوات الأوان، بعدَ ألا ينفعُ الندم.
فمرة ثانية: عوّد نفسك أن تتعامل مع الحقائق، وحاول أن تنزع من ذاكِرتكَ ومن ذهنكَ كل خرافة، وكل جهل، الجهل معلومة لكنها غلط، الجهل مقولة لكنها غلط، الجهل تصوّر لكنه غلط، الجهل إدراك لكنه غلط، الجهل فلسفة لكنها غلط، أي قد تحمل أعلى شهادة في الأرض، وهناك في الذهن آلاف المعلومات المغلوطة.
أول فكرة إذاً عوّد نفسك أن تتعامل مع الحقائق لا مع الخرافات، لا مع الأوهام، لا مع الشكوك، لا مع الظنون، لا مع التقليد، لا مع فكرةٍ بِلا دليل. 
 

كل عَظَمة الإنسان متعلقة بعمل أجهزتهِ:


الفكرة الثانية، أنتَ لكَ حقيقة، لكَ واقع، أي أنتَ معك مركبة، قوتها خمسة حصان، عندك بضاعة خمسة طن، متألم، ندمان، بحث آخر، هذه المركبة لا تحمل إلا خمسمئة كيلو، هذا واقع، فإمّا أن تُحملّها ما لا تُطيق فتُصيبُها بالخلل، وإمّا أن تتعامل معها تعاملاً واقعياً، أنا ما أرى أنَّ المُسلم إنسان خيالي، ولا إنسان حالم، ولا إنسان مُخرّف، ولا إنسان يعيش في أوهام، دائماً أهلُ الدنيا يشمئزون من كل تجاوز للواقع، لستَ واقعيّاً، يكشر، أنا أقول لكم: المؤمن الحق في أعلى درجات الواقعية، واقعي، أنت أيها الإنسان فقيرٌ إلى الله.
هناك إنسان بأحد المصحات العقلية، في مهجع رقم ستة، هذا المهجع والعياذُ بالله! بدرجة متطورة جداً، أي لا يُبقي على جِسمه ثياباً، كما خلقهُ الله، ويأكل من بِرازهِ، شيء لا يتصور، إنسان له أجهزة، ودماغ، وشرايين، وأوردة، وعضلات، وأعصاب، وعضلات قوية، ويتحرك، ويأكل، ويتكلّم، لكن يوجد خلل في عقله فصارَ يأكلُ بِرازهُ، وحدثني أحدُ من أثِقُ بهِ أنَّ له قريبةً يضعونها على سرير، ويربطونها بأربطة ليمنعوها من أكلِ بِرازها، أنتَ فقير إلى الله، فقير في عقلك، فقير بعضلاتك، لمّا قالَ النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف،

(( عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، ولا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا. ))

[ سنن الترمذي حسن غريب ]

أي كل عَظَمة الإنسان إن كانَ له عَظَمة متعلقة بعمل أجهزتهِ، فلو توقفت كليتاه عن العمل هُنا المُشكلة، انقلبت حياتهُ إلى جحيم، لو انسدّت قناةُ العين فسالَ الدمعُ من على خدّهِ وخرّش خدهُ حياتهُ جحيم، إذا أُصيب جهاز التوازن في الأذن الوسطى بالعطب يقع، لا يقف، جهاز التوازن، أنت لولا هذا الجهاز تحتاج إلى قاعدة استناد ستين أو سبعين سنتمتراً، والدليل انظر إلى النماذج البشرية في المحلات التجارية، دقق في الأرض ترى لها قاعدة استناد سبعين سنتمتراً، التمثال الذي يُلبسونه الثياب، بائعو الثياب الجاهزة عِندهم تماثيل، هذه التماثيل من أجل أن تقف تحتاج إلى قاعدة استناد قطرها عبارة عن سبعين سنتمتراً، فأنتَ لِحكمةٍ أرادها الله عزّ وجل جعلَ لكَ قدمين صغيرتين لطيفتين تتناسبا مع قِوامك بفضل جِهاز التوازن، جهاز التوازن ثلاث قنوات، فيهم سائل، فيهم أهداب، لمّا الإنسان يميل، يتحرك السائل، يبقى السائل مستوياً، فلمّا القوس مال السائل يمس الأهداب، يتحسس الإنسان، يأخذ الاحتياط، هذا سِرّ ركوب الدراجة أساساً، لولا جهاز التوازن لا يستطيع إنسان ركوب دراجة، فأنتَ مُفتقر إلى الله، مُفتقر إلى الله بمادة أودعها الله في عينيك تمنع التجمد، لو ذهبت إلى فنلندا، إلى الدائرة القطبية، بإمكانكَ أن تضعَ على عينيك كمامات لتحميهما من البرد؟ مستحيل، لابدّ من أن ترى طريقك، وهذا السائل مُلامس للجو الخارجي، أودعَ الله فيكَ هذه المادة.
إخواننا الأطباء -جزاهم الله عنّا كلَّ خير-حينما درسوا الطِب، وجدوا أنَّ حياة الإنسان تقوم على آلاف الشروط، الغدة النخامية ملكة الغُدد الصماء، لو أصابها خلل، الغدة الدرقية لو أصابها خلل، الكظر، الإنسان شاهد أفعى، صورة الأفعى انطبعت على الشبكية، في الشبكية صار هناك إحساس، مئة وثلاثون مليون مخروط، العصب البصري تسعمئة ألف عصب، نقل الصورة إلى الدماغ، الدماغ أدرك بحسب المفهومات، المفهومات بحث قائم بذاته، الطفل حينما يحبو يرى أفعى لا يخافُ منها، يُخيفهُ أبوه منها، يُنبأ أنها مؤذية، دخل المدرسة من خلال تعامله مع الواقع ينشأ عندهُ مفهوم الأفعى، فإذا رأى الأفعى استحضرَ هذا المفهوم فخافَ منها، لمّا خاف الدماغ أبلغ النظام الهرموني، وعلى رأسهِ الملكة، وهي الغدة النخامية، أبلغها أنَّ هُناك خطراً، الغدة النخامية تُبلغ الكظر غُدتان فوق الكُليتين، الكظر يُرسل أربعة أوامر هرمونية مباشرةً، أول أمر يُرسِلهُ إلى القلب يُسرع، كان النبض ثمانين صار مئة وخمسين، مئة وثمانين، من أجل أن يسير الدمُ سريعاً إلى العضلات، هرمون ثان يضيق لمعة الأوعية، لأنَّ الإنسان ليسَ بحاجة إلى شكل وردي، بحاجة إلى دم في العضلات كي يهرب، أو كي يُقاوم، هرمون ثالث يُسرّع الرئتين، هرمون رابع يطرح كميات سُكر في الدم جديدة، وأنتَ لا تدري، فأنتَ مُفتقر في أجهزتك إلى آلاف الأجهزة، عشرات الأجهزة والغُدد الصمّاء.
مرض السُكر ما هو؟ البنكرياس يفرز مادة الأنسولين، الأنسولين يساعد على احتراق السكر في الدرجة السابعة والثلاثين، إذا قلّت هذه المادة يحتاج إلى حُقن أنسولين، إذاً المُشكلة أنَّ هُناك حقيقة لابدَّ من أن تتعاملَ معها، أعجبتكَ أو لم تُعجِبك، قَنِعتَ بها أو لم تقنع بِها، رضيتَ عنها أو لم ترض، إنكَ فقير إلى الله، لهذا قال بعضُ العارفين بالله: 

وما لي سوى فقري إليك وسيلة            فبالافتقار إليك فقري أدفع

وما لي سوى قرعي لبابك حيلة            فإذا رددت فأي باب أقرع؟

[ الشافعي ]

   * * *

أنتَ بالافتقار إلى الله غني.
 

الغني هو المفتقر إلى الله عزّ وجل:


لذلك الآن يوجد عندنا موضوع ثان؛ أول فكرة: تعامل مع الحقائق.
 ثاني فكرة: اعلم عِلمَ اليقين أنكَ فقير، أيّ مُفتقر، أيّ مُحتاج.
الفكرة الثالثة: لماذا جعلكَ الله فقيراً؟ كي تُقبِلَ عليه، كي تستعينَ بهِ، كي تلجأَ إليه، كي تسعدَ بقُربِهِ.
الفكرة الرابعة: أنكَ إذا كُنتَ مُفتقراً إلى الله فأنتَ الغني، إذا كُنتَ مُفتقراً في قوتك إلى الله فأنتَ القوي، هذه أهم فكرة، من هو الذي يشعر بالغِنى؟ من كان له اعتماد على جِهة غنيّة جداً، أي طالب يوجد بجيبه ليرة، وطالب ليسَ في جيبهِ ولا قرش، لكنَّ له أباً لو طلب منه مليون لأعطاه، أيهما أغنى؟ حسب الظاهر الأول معه ليرة، الثاني لا يملك ولا ليرة، أمّا الأول ليسَ لهُ أب، يتيم، معهُ هذه الليرة فقط، أمّا الثاني ليسَ في جيبهِ ليرة، لكنَّ له أباً يملك مئات الملايين، وهو يُحبهُ حُباً جمّاً، فبمجرد أن يطلُبَ منه يعطيه ما يشاء، إذاً:

وما لي سوى فقري إليك وسيلة            فبالافتقار إليك فقري أدفع

وما لي سوى قرعي لبابك حيلة            فإذا رددت فأي باب أقرع؟

[ الشافعي ]

* * *

 

العطاء والحرمان:


الآن الفكرة الخامسة، إذا الله عز وجل أفقر إنساناً أو حرمهُ شيئاً، لا يُلقينَّ في روعِهِ أنَّ هذا إهانة لهُ، الآن يوجد عندنا موضوع دقيق جداً مستنبط من قولهِ تعالى: 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾

[ سورة الفجر ]

الله قال: كلا، لماذا قال كلا؟ كلا أداةُ ردعٍ ونفي، أي ليسَ إعطائي لكم إكراماً وليسَ حِرماني لكم إهانةً، عطائي ليسَ إكراماً ومنعي ليسَ حِرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، القاعدة الأساسية الذهبية أنَّ كلَّ شيء آتاكَ الله إياه لا يُمكنُ أن يُسمى نِعمةً إلا إذا استخدمتها في طاعة الله، فالمال تعريفهُ في علم العقيدة ابتلاء، أنفقتهُ في طاعة الله صارَ نعمة، أنفقتهُ في معصية الله صارَ نقمة، الزوجة؛ نعمة؟ لا، تزوجتها حملتها على طاعة الله أصبحت نعمة، تركتها وشأنها تَفْسد وتُفْسد هي نقمة، لذلك إيّاك أن تقول لإنسان آتاه الله مالاً؟ هنيئاً لكَ، لا تقل له: هنيئاً لكَ إلا إذا رأيتهُ يُنفقُ هذا المالَ في طاعة الله، لا تقل لإنسان يتمتع بقوة جيدة: هنيئاً لك، لا تقل له: هنيئاً لك إلا إذا استخدمَ هذه القوة في طاعة الله، هذه قاعدة أساسية، كلُّ حظوظ الدنيا بدءاً بالمال ومروراً بالصحة والذكاء والجمال والقوة، هذه الحظوظ هي في نص القرآن الكريم ابتلاء، ﴿فأما الإنسان إذا ما ابتلاهُ ربهُ فأكرمهُ ونعمّهُ فيقول﴾ هو هذه مقولته ﴿ربي أكرمن* وأما إذا ما ابتلاه فقدرَ عليه رِزقهُ فيقول﴾ هو ﴿ربي أهانَنِ* كلا﴾ لا هذا صحيح ولا هذا صحيح، ليسَ عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، أي أيها الإنسان إذا ابتلاك اللهُ بشيء لا تشعر بالهوان، الله منع عني، الله أعطى غيري، الله لا يُحبني، لا، اشعر أنَّ الله يُحبُك، ولأنهُ يُحبُكَ ابتلاك، وقد قيل: إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه.
فقال بعض العلماء: والفقر والغِنى ابتلاء من الله لعبدِهِ ، كما قال الله تعالى: ﴿فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربهُ فأكرمهُ ونعمّهُ فيقول ربي أكرمن* وأما إذا ما ابتلاه فقدرَ عليه رِزقهُ فيقول ربي أهانن* كلا﴾ أي ليسَ كلُّ من وسّعتُ عليه وأعطيتهُ أكون قد أكرمته، ولا كلُّ من ضيقتُ عليه وقتّرتُ عليه أكونُ قد أهنتهُ، فالإكرام، هنا الآن ما هو الإكرام؟ الآن الله عزّ وجل نفى أن يكونَ إعطاؤهُ المال أو الصحة أو القوة أو الذكاءَ أو أي شيء آخر إكراماً، ونفى أن يكونَ الحرمان من هذه إهانةً، ليسَ إكراماً في توافرها وليسَ إهانةً في تقتيرها، إذاً ما تعريف الإكرام، من هو المُكرّم؟ من يذكر آية واضحةً وضوح الشمس جليّةً جلاءَ النهار تؤكد أنَّ الإكرام هو كذا؟ 

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾

[  سورة يوسف ]

الجواب: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات ]

المُكرّم هو الطائعُ للهِ عزّ وجل، إذا أردت أن تعرف من هوَ المُكرّم حقيقةً، إذا رأيتهُ مستقيماً على أمر الله، ليسَ الوليُّ من يطيرُ في الهواء، ولا من يمشي على وجه الماء، ولكنَّ الوليَّ كلَّ الوليّ من تجدهُ عِندَ الأمرِ والنهي. 
 

حقيقة الافتقار:


قبل أن نختم الدرس هناك حقائق لابدّ من ذكرها.
أولاً: الافتقار إلى الله في ظاهِرهِ تذلّل، تجد رجلاً متعجرفاً يقول لك: أنا فعلتُ كذا، أنا قادر أن أُنفق كذا، أنا قادر أن أُمرّغَ به الوحل، ممكن، هذا موقف فيه استغناء واستعلاء، ومعظم المقطوعين عن الله عزّ وجل لابدَّ من أن تلمح في سلوكهم هذا الاعتزاز والغرور والاستعلاء والغطرسة والعُنجهية، القصة تعرفونها جميعاً، أحد الملوك اسمه جَبَلةَ بن الأيهم، جاء سيدنا عمر مُسلماً، في أثناء الطواف داس إزاره أحد الأعراب من فزارة بدوي، فالتفت نحوه وهشمه بضربة أصابت أنفه، فاشتكى إلى عمر رضي الله عنه، فجاء طلب هذا الملك، كان ملك الغساسنة، قال له: أصحيحٌ يا بن أيهم ما ادّعى  هذا الفزاريُّ الجريح؟ قال: لستُ ممن يكتمُ شياً أنا أدّبتُ  الفتى أدركتُ حقي بيديَّ، قال: أرض الفتى لابدَّ من إرضائه ما زال ظِفرُكَ عالقاً بدمائهِ، أو يُهشـــــمنَّ الآن أنفُك وتنـــال ما فعـلتهُ كفُك، قال: كيــــفَ ذاكَ يا أمـير هو سوقـةٌ وأنا عـرشٌ وتاج، كيفَ ترضى أن يَخِرَّ النجمُ أرضاً؟ قال له عمر: نزوات الجاهلية ورياح العُنجهية قد دفناها  أقمنا فوقها صرحاً جديداً وتساوى الناسُ أحراراً لدينا وعبيداً، قالَ: كانَ وهمــاً ما جرى في خَلَدي  أنني عِنـــدكمَ أقـوى وأعز أنا مرتدٌ إذا أكرهتني، قال: عُنقُ المُرتـد بالسيفِ تُحزّ عالمٌ نبنيه كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيفِ يداوى، وأعزُّ الناسِ بالعبدِ بالصعلوكِ تساوى.
هذا موقف، فالإنسان لمّا يأخذ موقفاً فيه استعلاء وتكبّر وغطرسة وعنجهية وعرض عضلات وتجبّر، يبدو للناس أنهُ قوي وعزيز، يأتي المؤمن يأخذ موقفاً آخر، موقف التواضع والاستكانة إلى الله عزّ وجل، موقف الاعتراف بالضعف، موقف الاعتراف بالتقصير، أي موقف فيه تواضع، أيُهُما أحبُّ للنفس؟ هنا سُئِل أحد العلماء، قال: الفقر له بداية ونهاية، وظاهر وباطن، بدايتهُ التذللُ إلى الله ونهايتهُ العِزُّ بالله، الاعتزاز بالله، لا يوجد إنسان تواضع لله كرسول الله، دخلَ مكةَ فاتحاً وقد أخرجتهُ وأصحابهُ، وائتمرت على قتلهِ، ونكّلت به وبأصحابهِ، دخلها فاتحاً، كادت ذؤابة عِمامتهِ تُلامِسُ عُنُقَ بعيرهِ تواضُعاً لله عزّ وجل، ولا أعلمُ مخلوقاً على وجه الأرض نالَ عِزّاً وشرفاً كرسول الله. 
فإذا أنت مُفتقر لله عزّ وجل فيما يبدو للناس يقول لك: درويش هذا، درويش، متواضع زيادة، إذا كُنتَ مُفتقراً إلى الله عزّ وجل هذه بدايتُك، أمّا نهايتُك أنتَ العزيز، أنتَ رفيعُ الشأن، أنتَ مرهوب الجانب، أنتَ الذي يهابُكَ الناس، فقال: بدايتهُ الافتقار ونهايتهُ العِزُّ، ظاهِرهُ العُدم، قد تملك ألوف الملايين وأنتَ فقير، أنتَ من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض، وقد لا تملكُ شيئاً وأنتَ غني، لذلك قيل: أنتَ من خوف الفقر في فقر، أي توقّعُ المصيبةِ مصيبةٌ أكبرُ منها، إذاً ظاهِرُ الفقرِ العُدمُ وباطِنهُ الغِنى.
سؤال؛ إذا الإنسان افتقر إلى الله ما الذي يحصل؟ أنه يستغني به، وإذا استغنى بهِ صارَ أغنى الأغنياء، من هوَ الغنيُّ الحقيقي؟ هو المُفتقر، لهذا أروعُ كلمة قالها الإمامُ عليُّ كرّمَ اللهُ وجهه تعجبني جداً، قال: الغِنى والفقر، سكت، قال: بعدَ العرضِ على الله.
لا يسمى الغنيُّ غنيّاً الآن، ولا الفقيرُ فقيراً، غني غِنى طارئاً لسنواتٍ معدودة، وفقراً طارئاً، لكنَّ الغِنى الحقيقي أن تُطيعَ الله، وتأتيهِ يومَ القيامةِ ناجيّاً من عذابه، فقال: الغِنى والفقر بعدَ العرضِ على الله، قالَ بعضهم: إذا صحَّ الافتقارُ إلى الله تعالى صحَّ الاستغناء بهِ، لن تستغني بهِ إلا إذا افتقرتَ إليه، إن لم تفتقر إليه لا تستغن بهِ، لا يَصِحُ استغناؤك إلا إذا افتقرتَ إليه، وإذا صحَّ الاستغناءُ بالله عزّ وجل كَمُلَ غِناك.
إذاً أعلى درجات الغِنى أن تكونَ في أدنى درجات الفقر، هذه من المُفارقات، سُئِلَ بعضُهم: أنفتقرُ إلى اللهِ أم نستغني بهِ؟ فقالَ: كِلاهُما، كِلاهُما، يجبُ أن تفتقرَ إليهِ أولاً حتى تستغني بهِ ثانياً.

إذا كُنتَ في كُلِ حالٍ معي                  فعن حملِ زادي أنا في غِنى

[ عبد الغني النابلسي ]

* * *

كُن مع الله ترَ الله معــــك                  واترك الكُلَّ وحاذر طمعك

وإذا أعطاكَ من يمنعـــهُ؟                  ثمَّ من يُعطي إذا ما منعــك

[ عبد الغني النابلسي ]

* * *

 فأحد العلماء قال: غداً لا يوزنُ الفقرُ والغِنى ولكن يوزنُ الصبرُ والشّكر. 
 

تلخيص لما سبق:


لذلك حقيقةٌ يجب أن نعترفَ بها: في الأساس تعامل مع الحقائق، وإيّاكَ كمؤمن أن تتعامل مع الأوهام أو الخرافات أو الجهل، وما الجهل؟ هو اعتقادٌ مُخالفٌ للواقع، ما العلم؟ إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل، ما الجهل؟ إدراكُ الشيء على خِلاف ما هو عليه بلا دليل، فالتعامل مع الحقائق.
ثانياً: هناك حقيقةً صارخة وهيَ أنكَ مُحتاجٌ إلى الله في كلِّ شيء.
الحقيقة الثالثة أنَّ الافتقارَ لمصلحتك، لو أنَّ الله جعلكَ غنيّاً لاستغنيتَ بغِناكَ عن الله، فشقيتَ باستغنائك، جعلكَ مفتقراً إليه، كي تكونَ مفتقراً مُقبِلاً مُلتجئاً مُعتزّاً، حتى تسعدَ بهذا.
الفكرة الأخيرة: الغِنى الحقيقي طريقهُ الافتقار إلى الله، وهذا هو حجمُكَ الحقيقي، ورَحِمَ اللهُ عبداً عَرَفَ حدّهُ فوقفَ عِندهُ.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور