الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخُلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُرّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
الإنسان هو المخلوق الأول في الكون:
أيها الإخوة الكرام؛ قيل: "مَن عرف نفسه عرف ربه"، فمن أنت أيها الإنسان؟ هل تصدق أنك المخلوق الأول في الكون، لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
ولأن هذا الإنسان قَبِل حمل الأمانة كان المخلوق الأول، لذلك سخّر الله له:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

تسخير تعريف وتسخير تكريم، أما تسخير التعريف والتكريم فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى الهلال فقال:
(( هلالُ خيرٍ ورشدٍ، هلالُ خيرٍ ورشدٍ، هلالُ خيرٍ ورشدٍ، آمنت بالذي خلقَكَ – ثلاثَ مراتٍ-، ثم يقول : الحمدُ للهِ الذي ذهب بشهرِ كذا، وجاء بشهرِ كذا ))
[ رواه الألباني في (السلسلة الضعيفة) عن أبي سعيد الخدري ]
أي ننتفع بضوئه ويرشدنا إلى ربنا، إذاً ما من شيء في الأرض:
﴿ وَفِى ٱلْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)﴾
إلا له وظيفتان؛ وظيفة نفعية ننتفع به، ووظيفة إرشادية يرشدنا هذا الشيء إلى الله، فلذلك أنت إذا لعقْتَ لعْقة عسل واحدة تنتفع بهذا الشراب النفيس، وهذا الشراب يدلك على الله،
وفي كلّ شي له آيةٌ تدلّ على أنَّه واحدُ
[ لبيد بن ربيعة العامري ]
أيها الإخوة الكرام؛ أنت المخلوق الأول فإذا عرفت الله كنت فوق الملائكة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ (7)﴾
وإذا غفل الإنسان عن رسالته، وغفل عن مهمته، وانغمس في شهواته، وغفل عن ربه، كان أسوأ المخلوقات قاطبةً.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ (6)﴾
فبين أن تكون خير البرية، وبين أن يكون هذا الذي شردَ عن الله -عزَّ وجلَّ- شر البرية.
الإنسان هو المخلوق المكرّم:
أيها الإخوة الكرام، سؤال آخر: الإنسان هو المخلوق الأول، والإنسان هو المخلوق المكرم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
الإنسان عقلٌ يدرك، وقلبٌ يحب، وجسمٌ يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، ما لم تُلبَّ حاجات العقل والقلب والجسم معاً يكون التطرف، فإن لُبِّيَت حاجات العقل والقلب والجسم كان التفوق، وفرق كبير بين التفوق وبين التطرف، الإنسان عقل يدرك، غذاؤه العلم، أي العلم هو الحاجة العليا في الإنسان، في الإنسان حاجات دنيا يحتاج إلى الطعام والشراب، يحتاج إلى زوجة، يحتاج إلى مكانة، يحتاج إلى مأوى، يحتاج ويحتاج...، هذه كلها حاجات دنيا، أما الحاجة العليا أن تبحث عن الحقيقة، وهذا الذي لا يبحث عن الحقيقة، ولا يسأل لماذا أنا في الدنيا؟ من خلقني؟ هل لهذا الخالق العظيم تشريع يضمن لي سلامتي وسعادتي؟ هذا الذي انغمس في ملذاته وشهواته، وأعماله، وغفل عن ربه، هذا الإنسان ابتعد بُعد الأرض عن السماء عن الغاية التي خُلِق من أجلها.
البشر فريقان لا ثالث لهما:
إخوتنا الكرام؛ البشر على اختلاف مِلَلهم، ونِحَلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم، وأديانهم هم عند الله نموذجان لا ثالث لهما، الآن على وجه الأرض -بأحدث إحصاء- سبعة مليارات إنسان، هؤلاء السبع مليارات لا يزيدون على نموذجين؛ النموذج الأول: تعرّف إلى الله، وتعرّف إلى منهجه، فطبّقه، وأحسنَ إلى خلْقه، فسلِمَ وسعِدَ في الدنيا والآخرة، النموذج الآخر: غفل عن الله، وغفل عن منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي وهلَك في الدنيا والآخرة، ولن تجد نموذجاً ثالثاً، والدليل: الله -عزَّ وجلَّ- على ما في الأرض من تصنيفات وتقييمات للبشر؛ المتفوقين، المتخلفين، الأقوياء، الضعفاء، المستغِلّين، المستغَلّين، العرق الآري، الإنغلو سكسوني، العرق السامي، على كل هذه التقسيمات القرآن الكريم قسّم عباده إلى قسمين، فقال:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6)﴾
أول نموذج: صدّق بالحسنى، والحُسنى هي الجنة، أي صدّق أنه مخلوق للجنة، وبناء على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، وبناء على هذا التصديق جعل كل حركته في العمل الصالح، ﴿أَعْطَىٰ﴾ عمل صالح، ﴿وَٱتَّقَىٰ﴾ أن يعصي الله، ﴿وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ هذا أول نموذج، وأما النموذج الآخر:
﴿ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9)﴾
كذّب بالآخرة ولم يؤمن إلا بالدنيا، واستغنى عن طاعة الله، وعصى الله -عزَّ وجلَّ-، هذان النموذجان لا ثالث لهما على وجه الأرض: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ*وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ ﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ*وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ﴾ .
أيها الإخوة؛ فالبطولة أن نكون-إن شاء الله- من النموذج الأول، الذين عرفوا الله، واستقاموا على أمره، وتقربوا إليه، فسلِموا وسعِدوا في الدنيا والآخرة.
تقسيمات البشر عند الله-عزَّ وجلَّ-:
أيها الإخوة الكرام؛ شيء آخر، كل التقسيمات؛ تقسيمات أهل الأرض مرفوضة عند الله -عزَّ وجلَّ-، لم يعتمدها القرآن الكريم، القرآن ماذا اعتمد؟ قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

فأبو لهب عم النبي:
﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍۢ وَتَبَّ (1)﴾
أما بلال الحبشي فكان الصحابة الكرام إذا ذكروا الصديق قالوا: "الصدّيق سيدُنا وأعتقَ سيدَنا أي بلالاً" ، سيدنا الصديق حينما أعتق بلالاً وضع يده تحت إبطه وقال: "هذا أخي حقاً"، هذا الإسلام، أيّ تفرقة بناءً على اللون، أو على العرق، أو على الطبقة، أو على المال، أو على الوسامة، أو على الحسَب، أو على النسب، تفرقة جاهلية:
(( سلمانُ منا أهلَ البيتِ ))
[ الألباني في السلسلة الضعيفة عن عمرو بن عوف ]
أيها الإخوة الكرام؛ ما لم يكن –دققوا- تصنيف الإنسان تصنيفاً موضوعياً، وليس انتمائياً لا نرقى ولا ننتصر على أعدائنا، يجب أن يكون تصنيف البشر تصنيفاً موضوعياً بحسب العمل والعطاء لا تصنيفاً انتمائياً، لذلك اسأل نفسك هذا السؤال: ماذا قدمت للأمة؟ حينما يقف الإنسان أمام ربه يوم القيامة ويُسأل: ماذا قدمت للمسلمين؟ هل قدمت لهم حرفة متقنةً بإخلاص شديد وبأسعار معتدلة؟ هل قدمت لهم علماً؟ هل كنت أباً صالحاً؟ هل كنتِ أماً صالحةً؟ هل كنت أخاً رؤوفاً؟ ماذا قدمت؟ اسأل نفسك هذا السؤال، الإنسان حينما يوضَع في قبره في أول ليلة قيل: إنها أصعب ليلة، يقال له: "عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت" .
أيها الإخوة؛ المشكلة الأولى أن معظم الناس يعيشون لحظتهم أو ماضيهم فقط، كنت، فعلت، سافرت، دفعت، قبضت، اشتريت، في الماضي، أو أنا الآن بيتي أملكه، عندي أربعة أولاد، وقلّما يفكر الإنسان في المستقبل، ماذا في المستقبل؟ أخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا، من بيت إلى قبر، من بيت فيه عدة غرف للضيوف، للطعام، للجلوس، للنوم، ثم إلى قبر صغير، ماذا في القبر؟ من هو الذكي؟ الذي يعيش المستقبل.
أيها الإخوة الكرام؛ كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
واللّيـــلُ مهمــــا طــــــالَ فلا بدّ من طُلــوعِ الفجْــــرِ
والعُمـــرُ مهمـــا طـَـــــالَ فلا بدّ مـن نُــزولِ القَبــــــرِ
عبادة الله -عزَّ وجلَّ-علة وجود الإنسان على سطح الأرض:
الآن ما علة وجودي؟ إنسان أرسل ابنه إلى بلد أوروبي لينال الدكتوراة، نقول: هذا الطالب في باريس علة وجوده في هذه المدينة شيء واحد -باريس فيها مقاصف، ومتنزهات، ودُور سينما، مسارح، حدائق، جامعات، بيوت سكنية، معامل إلى آخره- علة وجوده في هذه المدينة شيء واحد نيل الدكتوراة من السوربون فقط، وهل تصدق أنك -أيها الإنسان- وأنت في الدنيا علة وجودك شيء واحد أن تعبد الله، إلا أن معظم المسلمين إذا قرؤوا كلمة عبادة يتوهمون أن تصلي فقط، أن تصلي، وأن تصوم، وأن تؤدي الزكاة، وأن تحج البيت هذه عبادات شعائرية، بينما العبادات التعاملية تزيد على مئة ألف بند، كسب مالك، إنفاق مالك، علاقتك بجيرانك، كيف تختار زوجتك، كيف تربي أولادك، كيف تعالج المريض، كيف تعامل جارك؟ مئة ألف بند هذه العبادة التعاملية، فلذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- بيّن أن الإنسان إذا تعرّف إلى الله ينبغي أن يكون أميناً، وصادقاً، ومُحسِناً، وحليماً، وصبوراً، هذه الأخلاق الرفيعة هي العبادة التعاملية، والعبادات الشعائرية لا تُقبَل بل لا تصِحّ إن لم تصح العبادة التعاملية؛ لذلك: "تَرْكُ دانق من حرام -والدانق سدس الدرهم - خير من عبادة سنة"، فالبطولة أن تكون حركتي في الحياة وفق منهج الله، كسب مالي، إنفاق مالي، علاقتي بالنساء، علاقتي بالمحارم، علاقتي بزوجتي، علاقتي بمن رباني، هذه العلاقات يجب أن تنضبط وفق منهج الله، فلذلك من السذاجة أن تظن أن الإسلام صوم وصلاة وحج وزكاة، الإسلام منهج تفصيلي يبدأ من فراش الزوجية، وهو أخص خصوصيات الإنسان وينتهي بالعلاقات الدولية ، إذاً:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

العبادة في أدق تعاريفها:
طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، طاعة ليست قسرية، هذا الإله العظيم ما أراد أن تكون علاقتنا به علاقة إكراه، قال تعالى:
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾
أراد أن تكون علاقتنا به علاقة حب، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ (165)﴾
طاعة طوعية، بمبادرة فردية، بمحبة قلبية، طاعة طوعية أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، عندنا سبب، وعندنا تعريف، وعندنا ثمرة، السبب: التفكر في خلق السماوات والأرض كي نعرف الله معرفة يقينية، والسلوك الانصياع لأمر الله، والنتيجة أنت أسعد إنسان.
أطِعْ أمْرَنا نرْفَع لِأَجْلك حُجْبنــا فإنا منَحنا بِالرِّضى من أحَبَّنــــا
ولُذ بِحِمــــانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــــا لِنَحْميك ممِّا فيــــه أشْرار خَلْقِنـا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــل وأخلِص لنا تلـقَ المسرة والهنــا
وسلِّم إلينا الأمر في كلِّ ما يكن فما القرب والإبعـاد إلا بأمرنــــا
فلو شاهدت عيناك من حـسننـا الذي رأوه لما وليت عنـا لـغيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـا
ولو ذقت من طعم المحبــة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنـا
ولو نسمَتْ من قربنا لك نسمـةٌ لَمِتَّ غريبـــــاً واشتياقــاً لقربنــا
ولو لاح من أنوارنــا لك لائـح تركت جميع الكائنــات وجئتنــــا
فما حبنــا سهل وكل من ادعى سهولته قلنـا لــه قد جهلتنـــــــــا
أيها الأخ الكريم؛ أيليق بك أن تحب غير الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، خالق السماوات والأرض، كن فيكون؟! هذا الإله العظيم ألا يُخطَب وده؟ ألا تُرجى جنته؟ ألا تُخشى ناره؟
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هذا لَعَمْرِي في المَقــــالِ بَديــــعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَـــنْ يُحِبُّ يُطِيــــــعُ
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:
أيها الإخوة الكرام؛ بقي موضوع لطيف؛ أن المؤمن من أُولى خصائصه أنه يحمل رسالة، وأنت في أستراليا أيها المسلم لأنك مسلم فقط ينبغي أن تحمل رسالة،

الذي لا يحمل رسالة ليس من المؤمنين، من علامة إيمانك أنك تحمل رسالة، ينبغي أن تؤديها، قد تؤديها بلسانك، وقد تؤديها بعملك، وقد تؤديها بصدقك، وقد تؤديها بأمانتك، وقد تؤديها بإتقان عملك، وقد تؤديها إذا كنت زوجاً صالحاً، أو أباً رحيماً، قد تؤدي هذه الرسالة بوسائل لا تُعد ولا تُحصى، لذلك قيل:
"الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق" ، يمكن من البيت أن تصل إلى الجنة من تربية أولادك، وما دمت قد تكلمت عن تربية الأولاد فما من موضوع يمَسّ الإخوة الذين سكنوا هذه البلاد، وسكنوا غيرها من البلاد إلا أن موضوع تربية الأولاد هو الأول، الإنسان إذا رأى ابنه على غير ما يتمنى لا يسعد، قلت مرة لإخوتنا الكرام في أمريكا -وكان ذلك في عهد كلينتون-: لو بلغت منصباً ككلينتون، وثروة كأوناسيس، وعلماً كأينشتاين، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس.
تربية الأولاد أخطر موضوع في حياة كل إنسان:
أحد أكبر أسباب شقاء الأب أن يرى ابنه على غير ما ينبغي، متفلّت، لا يهتم لا لدين، ولا لمروءة، ولا لوَرع، ولا لاستقامة، هذا أكبر ثمن يدفعه من ابتعد عن بلاد المسلمين؛ الأولاد، فلذلك أتمنى من أعماق أعماقي أن تكون تربية الأولاد عندكم في المحل الأول قبل كل شيء، ما من عمل يفوق أن يكون ابنك كما تريد، يعرف أمته، يعرف دينه، يخاف من الله، يؤدي فرائضه، يدع الحرام، يأخذ الحلال، هذا ابنك امتدادك، لذلك الأب في أغلب الأحيان يشقى بشقاء ابنه،

الشيء الأساسي جداً في بلاد المهجر تربية الأولاد، وهذه التربية تحتاج إلى تعاون، هذا الابن حينما يفيق على طاعة الله، على صلاة الفجر في البيت، على أب مستقيم يغض بصره عن محارم الله، العلاقة مع الأم علاقة راقية، يكون في البيت الصدق، والحلم، والأمانة، هذا الابن يتخلّق بهذه الأخلاق، أكاد أقول: الموضوع الأول الأول في هذا اللقاء الطيب تربية الأولاد في هذه البلاد؛ لأن الصوارف والعقبات لا تُعد ولا تُحصى، بتعبير أو بآخر: إذا كان للتربية وحدات الآن العلوم بدأت تنتقل من الوضع الوصفي إلى الوضع الرياضي، قديماً نقول: هناك ضجيج، هذا وضع وصفي، الآن نقول: الضجيج مئة وثلاثون ديسيبل، صار للضجيج وحدات قياس، إذا كان عندنا وحدات قياس للتربية، إذا كنت قبل مئة عام تحتاج إلى خمسين وحدة قياس للتربية، الآن تحتاج إلى مليون وحدة للتربية في مجتمع متفلت، كل شيء مباح، هذا التفلت شيء خطير جداً، شيء آخر حينما يخطئ الابن، هناك نوع من الأخطاء لا عودة منها، انتهى، وهناك نوع من الأخطاء تتركها، وحينما يشقى الابن يشقى أبوه، أخطر شيء على إخوتنا أفراد الجالية الإسلامية في بلاد الغرب والشرق -أنتم من الشرق البعيد- أخطر شيء شقاء الأولاد، إذا شقي هذا الابن في مجتمع متفلت، الدين ليس له قيمة إطلاقاً، افعل ما تشتهي، كل شيء مباح، مثل هذا الابن أحد أسباب شقاء أمه وأبيه، فأنت إذا أردت أن تَسعد ينبغي أن تُسعِد أولادك.
أيها الإخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وصِلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم.
التفكر في خلق السماوات والأرض هو العبادة الأولى:
أيها الإخوة الكرام؛ في القرآن الكريم آيات تشريعية، وآيات تكوينية، وآيات قَصصية...إلخ، لكن الذي يلفت النظر أن في القرآن الكريم ألفاً وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون، آيات الأمر تقتضي أن نأتمر، وآيات النهي تقتضي أن ننتهي، وقصص الأنبياء السابقين ينبغي أن نتّعظ، وكل صنف من الآيات لها موقف منا، فما موقفنا من ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون؟
﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا (1) وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2)﴾
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍۢ (2)﴾
﴿ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (3)﴾
هذه الآيات الكونية التي تتحدث عن الكون والإنسان ما موقفنا منها؟ الموقف الدقيق في آية كريمة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَآيَٰتٍۢ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ (190) ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (191)﴾
إذاً: موقفنا من ألف وثلاثمئة آية التفكُّر، والتفكر في خلق السماوات والأرض هو العبادة الأولى؛ لأن التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله، وأوسع باب ندخل منه على الله لأن هذا التفكر يضعنا وجهاً لوجه أمام عظمة الله.
مَن خلق الأكوان أنزل القرآن:
أيها الإخوة الكرام؛ حينما صعد رائد الفضاء إلى القمر، وتجاوز طبقة الهواء التي يبلغ سُمكها خمسة وستين ألف كيلو متراً، وكان أحد أكبر علماء الفضاء من مصر في وكالة إرسال المركبات، فسمع بأذنه رائد الفضاء وهو يصيح بأعلى صوته: لقد أصبحنا عُمياً لا نرى شيئاً، لماذا؟ الآن انتهت طبقة الهواء، ماذا في الهواء؟

هناك ظاهرة فيزيائية اسمها (التناثر)، حينما تُسلَّط أشعة الشمس على ذرات الهواء، هذه الذرات تعكسها إلى ذرات أخرى، لو أطفأنا هذه الإضاءات يبقى هناك ضوء في المسجد، هذا الضوء جاء من تناثر الضوء في مكان آخر فيه شمس، ذرات الهواء هناك عكست نور الشمس إلى ذرات هواء أخرى، هذه الظاهرة اسمها في الفيزياء (التناثر)، لذلك لما تجاوز رائد الفضاء طبقة الهواء قال: لقد أصبحنا عُمياً لا نرى شيئاً، هذا الشيء ظهر قبل عشرين عاماً مع إرسال أول مركبة فضاء إلى القمر (أبولو)، نفتح القرآن الذي نزل قبل ألف وأربعمئة عام، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)﴾
مثل هذه الآيات هناك ألف وثلاثمئة آية، وهي أدلة قاطعة تؤكد أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن الكريم ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ*لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾
من ازداد إيمانه ازدادت استقامته:
أيها الإخوة الكرام؛ التفكّر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله، وأوسع باب ندخل منه على الله، والتفكر في خلق السماوات والأرض في موضوعات اختارها الله لنا، ألف وثلاثمئة آية في القرآن تشير إلى خلقه في السماوات والأرض، وخلق الإنسان، فلذلك جزء من عبادتك هو التفكُّر، وقد ورد: لا عبادة كالتفكر، تفكر ساعة خير من صيام شهرين.

أيها الإخوة، عوِّد نفسك أن تتفكر، هذا الماء الذي تشربه، هذا الطفل الذي أمامك، كان نقطة ماء قبل تسعة أشهر، رأس، وشعر، وعينان، وأنف، وأذنان، وفم، وجهاز هضم، وجهاز تنفس، وجهاز إدرار، وعضلات، وأحشاء، من خلقه؟
﴿ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلْخَٰلِقُونَ (59)﴾
الآيات بين أيدينا، فلذلك كلما ازداد إيمانك ازدادت استقامتك، لأنك إذا آمنت بالله عن تفكُّر، وعن يقين مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه، معرفة الله أحد أسباب الطاعة، لذلك أنت حينما تتفكّر تعلم علم اليقين ماذا ينتظر العبد إذا عصى ربه، وماذا ينتظره من خير إذا أطاعه، فلذلك -أيها الإخوة-: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ من هنا الإمام علي -كرّم الله وجهه- يقول: "في القرآن آيات لمّا تُفسَّر بعد" ، كلما تقدم العلم فسرها وهذا من إعجاز القرآن الكريم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت.
الملف مدقق