الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني والخمسين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيَّاك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الفِرار، هذه المنزلة مستنبطة من قوله تعالى:
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾
وحقيقة الفرار الهروب من شيءٍ إلى شيء، من شيءٍ مخيف إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعج إلى شيءٍ مُطَمْئِن.
أيها الإخوة والفرار نوعان؛ فرار السعداء وفرار الأشقياء، فرار السعداء إلى الله عزَّ وجل، وفرار الأشقياء فرارٌ منه لا إليه، فرارٌ منه إلى الدنيا، إلى المعاصي، فرار السُّعداء فرارٌ من الدنيا إلى الله، أما فرار السُّعداء الفرار منه إليه ففرار أوليائه، قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ أي فروا منه إليه، من عقابه إلى جنَّته، من معصيته إلى طاعته، فِرّوا مما سوى الله إلى الله، فِرّوا من الأغيار إلى الله، فِرّوا من الشُّركاء إلى الله.
وقال آخرون: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة، عملية فرار من شيء مخيف إلى شيء مُسْعِد، وحينما قال الله عزَّ وجل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ فالفرار منزلةٌ من منازل السالكين إلى الله عزَّ وجل.
هناك معنى آخر للفرار فرارٌ من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً، من الجهل إلى العلم، أن تعتقد وأن تسعى، ومن الكسل إلى التشمير جِدَّاً وعزماً، ومن الضيق إلى السَّعَةِ ثقةً ورجاءً، من الجهل إلى العلم اعتقاداً وسعياً، من الكسل إلى التشمير جِدَّاً وعزماً، من الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً، قيل: شمِّروا فإن الأمر جد، شمِّروا هذه منزلة الفرار، تأهبوا فإن السفر قريب، تزودوا فإن السفر بعيد، أخلصوا النية فإن الناقد بصير، أكثروا الزاد فإن المسافة بعيدة، خففوا الأثقال فإن في الطريق عقبةً كؤود، جدد السفينة يا أبا ذر فإن البحر عميق، شمِّروا فإن الأمر جد، عملية الفرار عملية فيها درجة عالية من الاهتمام والجدية والعزيمة.
أيها الإخوة الكرام؛ الجهل نوعان، عدم العلم بالحق النافع جهلٌ، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه جهلٌ، الجاهل هو الذي لا يعلم، والجاهل هو الذي لا يعمل، والدليل، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)﴾
هذا جهل العلم، أعوذ بالله ألا أعلم أن الاستهزاء ليس من شأن الأنبياء، أعوذ بالله أن أكون جاهلاً بهذا الأمر، نقلته لكم بأمانةٍ عن الله عزَّ وجل، فالجهل نوعان، عدم العلم، وعدم العمل.
أما عدم العمل كقول سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما قال:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
أن يصبو الإنسان إلى امرأةٍ لا تحل له هذا جهل، ليس جهل علمٍ ولكنه جهل عمل، فالذي لا يعلم جاهل، والذي يخطئ جاهل:
ألا لا يجهـلـن أحدٌ علـينـا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي أعوذ بالله أن أرتكب ما هو حرام، هذا معنى جهل العمل، لذلك كلّ من يعصي الله عزَّ وجل مدموغٌ بالجهل، كل من يجهل حقيقةً أساسيةً في حياته مدموغ بالجهل، من يعرفها ويخالفها مدموغٌ بجهلٍ مُرَكَّب.
الله عزَّ وجل في سورة الفاتحة يأمرنا أن نقول:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ هؤلاء الذين عرفوا وانحرفوا، جهل عمل، ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ جهل علم، الضالون ما عرفوا وانحرفوا، انحرفوا لأنهم ما عرفوا، أما المغضوب عليهم عرفوا وانحرفوا فجهلهم جهل عمل، الله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)﴾
هذا الذي لا يعلم ذنبه سريع الغفران، الذي يعمل السوء بجهالة هؤلاء توبتهم سريعة وسهلة، وقال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كلّ ما عُصِيَ الله به فهو جهالة، وقال غيره: أجمع الصحابة أن كلّ من عصى الله فهو جاهل، كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَكَفَى به جَهْلا أَنْ يعصيه، لمجرد أن تعصي الله عز وجل، من يعصه فهو جاهل.
المقصود بالفرار من قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ الفرار هنا من الجَهْلَين، من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقاداً ومعرفةً وبصيرةً، ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصداً وسعياً، إذا الإنسان رأى مكاناً يحترق وهناك مكان لا يحترق، يفرّ بجديةٍ ما بعدها جدية، من مكان الحريق إلى مكان البرد والثلج، فالفرار فِرارٌ من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقاداً ومعرفةً وبصيرةً، ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصداً وسعياً، والفرار أيضاً أن يفرّ الإنسان من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل.
أي الإنسان أمام بعض العبادات، أمام بعض الأعمال الطيبة، تحتاج إلى جهد، إلى عزيمة ، تجد من يقول لك: ابق، الله يرزق العباد، هناك من يدعوك إلى الكسل، من يدعوك إلى ألا تنفق، إلى ألا تعمل، إلى أن تخلُد إلى الراحة، إلى أن تسترخي، وهناك من يدعوك إلى العمل، حيّ على الفلاح، الجد ها هُنا صدق العمل وإخلاصه من شوائب الفتور، المنافقون:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
الجد صدق العمل، وإخلاصه من شوائب الفتور، ووعود التسويف والتهاون، وقد هلك المُسوِّفون، كلما هموا أن يتوبوا يقولون: غداً نتوب، بعد انتهاء الدراسة، بعد نيل الشهادة، بعد الزواج، بعد تأسيس عمل، بعد شراء بيت، يمضي كل حياته وهو يسوِّف إلى أن تأتية المَنِيَّة، والله عزَّ وجل يأمرنا أن نتلقَّى أوامره بالعزم والجد هذا معنى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ قال تعالى:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾
﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)﴾
﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)﴾
أي بجدٍّ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كمن يأخذ ما أُمِرَ به بترددٍ وفتور.
من معاني الفرار إلى الله أن تهرب من ضيق الصدر بالهم والغم والحزن والمخاوف التي تعتري الإنسان في هذه الدار إلى سعة الإيمان وأُفُقِ الإسلام ورحابة طاعة الرحمن.
الفرار مما يتعلق بأسباب مصالحه، الإنسان له مصالح متشابكة، هناك أرض لم تسجَّل، هناك بيت لم يَتِمّ بيعه، هناك شركة لم يتخالص فيها الشركاء، هناك إرث لم يوزَّع، هذه كلها هموم ساحقة وضاغطة وماحقة، فالإنسان يهرب من هذه المصالح وما يتعلَّقُ بها من ماله وبدنه وأهله وعدوه، يهرب من ضيق صدره إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وكأن الإنسان إذا حجّ بيت الله الحرام يقول: لبيك اللهم لبيك، أي استجابةً لك يا رب بعد استجابة، وكأن الله يدعوه ويقول: تعال إليّ يا عبدي، تعالَ اخرج من همومك، ومن ضيق صدرك، ومن ثِقَل مصالحك، تعال إليّ، حُطّ همومك عندنا، إذاً المؤمن يفرّ من ضيقٍ يعتريه، من ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبره.
ومن أحسن كلام العامة: لا همّ مع الله، أي على كل شيء قدير، كل من حولك بيد الله، الأقوياء بيده، والضُّعفاء بيده، وأهلك بيده، أعضاؤك بيده، أجهزتك بيده، خلاياك بيده، نمو الخلايا بيده، أعضاؤك النبيلة بيده، لا همَّ مع الله، من عرف الله ليس له همّ، الأمر كله عائدٌ إليه، وقال تعالى:
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾
كن عن همـــومك معرضا وكِــلِ الأمور إلى القـضا
وأبشــر بخـيــرٍ عـاجــــلٍ تنســى به مـا قـد مـضـى
فلرب ربَّ أمــرٍ مـسـخـطٍ لـك في عـواقــبه رضــــا
ولربَّمـا ضــــاق المضيــق ولربَّمـا اتســع الفضــــــا
الـلـه يـفـعــل مـا يشــــــاء فـــــلا تكــن مـعتـرضـــا
الـلــه عـوَّدك الجـمـيــــــل فـقــس على ما قـد مـضى
ولرب نازلةٍ ضاق بها الفــــتى ذرعا وعنـد الله مـنها المخــرج
نزلت فلما استحـكمت حلقاتهـا فرجت وكان يُظن أنها لا تــفرج
تفسير قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ :
أحد العلماء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ قال: يجعل له مخرجاً من كل ما ضاق على الناس.
وقال بعضهم: مخرجاً من كل شدة، وهذا جامعٌ لشدائد الدنيا والآخرة، ومضائق الدنيا والآخرة، فإن الله جلَّ جلاله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس، واشتدّ عليهم في الدنيا والآخرة مخرجاً.
وقال بعضهم والإمام الحسن منهم: مخرجاً مما نهاهم عنه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
الآن كلما كان العبد حسنَ الظن بالله، حسنَ الرجاء له، صادق التوكُّل عليه، فإن الله لا يخيب أمله فيه البَتَّة، فإنه سبحانه لا يخيِّبُ أمل آمل، ولا يُضيّع عمل عامل، وعبّر عن الثقة وحسن الظن بالسعة فإنه لأشرح للصدر، وأوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله، ورجائه له، وحسن ظنه به، هذا معنى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ من الضيق إلى السَّعَة، من الخوف إلى الطمأنينة، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة.
الفرار من الرسوم إلى الأصول:
الآن لو تعمقنا قليلاً، هناك فرار من الرسوم إلى الأصول، من مظاهر الدنيا، من قصورها، من بيوتها، من نسائها، من مركباتها، من تجارتها، من أموالها، من حدائقها، من بساتينها، من الرسوم إلى الأصول، ومن الحظوظ إلى التجريد، أرباب العزائم لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها، بل يعتدّون بأرواحها وحقائقها، أي لا يرضى أن يصلي صلاة جوفاء، ولا أن يصوم صياماً لا معنى له، ولا أن يحجّ البيت سائحاً، ولا أن ينفق ماله رئاءً، الصور لا تعنيه كثيراً، تعنيه الحقائق، وهم حينما عملوا بهذه الحقائق جعلوها هي المطلوبة، لم يجعلوا هذه الصور من مقصدهم ولا منتهى آمالهم، بل جعلوا حقائقها هي المطلوبة، طبعاً هناك ولا أعتقد أن هذه الفِرَق الآن موجودة، هناك فرقٌ ضالة قالت: نحن مع الله دائماً فلمَ نُصَلّي؟ نحن نريد الحقائق لا الصور، هذه الفرق في الأعم الأغلب ليس لها وجود الآن، هؤلاء سعوا في الظاهر إلى حقائق الأمور، وألغوا ظواهرها، وإلغاء ظواهرها زندقة، الذي لا يصلي، هناك من يقول لكن عن جهل: أنني أنا لا أحقد على أحد، لماذا الصلاة؟ من أجل ألا أؤذي أحداً، أنا لا أؤذي أحداً، ظنّ أنه عندما ترك أمراً إلهياً الله عزَّ وجل أمره به هو أفلح بذلك، مثل هؤلاء ضلوا ضلالاً بعيداً، وافتروا على الله كذباً، حينما أرادوا أن يبحثوا عن حقائق الأمور فألغوا صورها كلِّيَةً.
ما معنى أيضاً: فَرّوا من حظوظهم؟ قال العلماء: كل ما سوى مراد الله الديني منك، كائناً من كان، حظٌّ يتناقض مع الإقبال على الله، المطالب الدنيوية، مطالب المادة، هذه الحظوظ تعيق حركتك إلى الله عزَّ وجل، هذا الذي فرّ من حظوظه إلى حقائق الأشياء، وفرّ من صورها إلى جوهرها، هؤلاء لا يقنعون من الله بأمر يسكن إليه دون الله، لا يطمئن إلا لرضاء الله عنه، لا يطمئن لعمل وهو ليس مقبلاً على الله عزَّ وجل، لا يفرح بما حَصَلَ له دون الله، لا يأسَ على ما فاته سوى الله، لا يستغني برتبةٍ شريفة، وإن عَظُمت عنده، أو عند الناس، لا يستغني إلا بالله، أي هناك مراتب علية حتى في الدين، مناصب عالية جداً، ألقاب كبيرة، هذه الألقاب الكبيرة، هذه المناصب الرفيعة الدينية، هذه لا تغنيه عن القرب من الله عزَّ وجل، فرّ من حظوظه، وفرّ من أشكال الأشياء وصورها إلى حقائقها وجوهرها.
قال: هذا لا يقنع من الله بأمرٍ يسكن إليه دون الله، لا يفرح بما حصل له دون الله، لا يأسَ على ما فاته سوى الله، لا يستغني برتبةٍ شريفة وإن عظُمت عند الناس، لا يستغني إلا بالله، لا يفتقر إلا لله، لا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله، لا يحزن على ما فاته من الله، لا يخاف إلا من سقوطه من عين الله.
قالوا: وسقوط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، الكاذب، الخائن، المنحرف، المؤذي، الذي يكذب ويحتال على الناس، هذا سقط من عين الله، لا يخاف إلا من سقوطه من عين الله، واحتجابه عن الله، فكله بالله، وكله لله، وكله مع الله، وسَيْرُهُ دائماً إلى الله، وقد رُفِع له علمه فَشَمَّرَ إليه، وتجرَّد له مطلوبه فعمل عليه، تناديه الحظوظ إليّ إليّ، وهو يقول: إنما أريد الله عزَّ وجل، ورضوانه، وتجلِّيه، وجنته، وإن فاته الله فاته كل شيء، فهو مع الله مجردٌ عن خلق الله، ومع خلقه مجردٌ عن نفسه، ومع الأمر مجردٌ عن الحظ المزاحم للأمر، ومع الحظ المعين على الأمر، فإنه لا يحطُّه تناوله عن مرتبته، ولا يسقطه من عين ربه.
هذه مرتبة عالية جداً الفرار إلى الله، فرّ من الدنيا، فرّ من حظوظه، فرّ من شهواته، فرّ من همومه، فرّ من مشاغل الدنيا، فرّ من الأشكال.
مقارنة بين الشكل وبين الحقيقة:
الآن تجد جامعاً فخماً جداً، هذا شكل، المضمون الصلاة الصحيحة فيه، المضمون أن يرتاده طالب علم، المضمون أن يكون هذا المكان مركز إشعاع، أما هناك صور جميلة جداً، هناك مساجد ضخمة، أنا دخلت لمسجد في المغرب يُعدّ أضخم مسجد في العالم، كلف ألف مليون دولار، مئذنته جامعة، وهي أطول مئذنة في العالم، والذي يجلس في حرمه يرى البحر تحته، حينما بُنِي هكذا سمعت عنه أن الذي أمر ببنائه أراد أن:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)﴾
أن يكون هذا المسجد فوق البحر هو، وقد ترى البحر من خلال فتحات في حرم المسجد، فيه من الزخرفة ومن الأناقة والجمال ما لا يصدق، هذا شكل، مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من سَعَفِ النخيل، أرضه من البحص، لا يوجد رخام ، ولا يوجد خشب، ولا يوجد فسيفساء، ولا يوجد سجَّاد إيراني، ولا يوجد شيء من هذا القبيل، ومع ذلك خَرَّجَ أبطالاً ملؤوا الأرض بالعدل، والعلم، والفضيلة، والإحسان، والإنصاف، فهناك شكل وهناك حقيقة.
زارني أخ، أنشأ في أمريكا أضخم مركز إسلامي، أهداني كُتَيِّباً عنه، شيء لا يصدق، قاعة المحاضرات تتسع لخمسة آلاف، كلها كراسي من أفخر ما صُنِع، قاعات المكتبات، المعهد، المسجد، على مساحات شاسعة، كلّف إنشاؤه قريباً من خمسين أو ستين مليون دولار، فقال لي: هناك مشكلة هي مشكلة المشاكل، لا يوجد دعاة بمستوى هذا البناء، المسجد بالدعاة فيه، الجامعة بأساتذتها، المستشفى بأطبائها، فهناك شكل وهناك حقيقة.
هذا الذي فر إلى الله لا تعنيه الأشكال، لا تعنيه المظاهر، لا تعنيه الألقاب، لا تعنيه مرتبة دينية عالية جداً، الناس يُعَظِّمونها، وهو ليس مع الله قريباً، يعنيه الاتصال بالله، الإخلاص لله، يعنيه العمل الصالح الذي يُرضي الله، يعنيه الشوق إلى الله، فرار داخلي، فرّ من نفسه إلى الله، من حظوظه إلى الله، من همومه إلى الله، من رغباته إلى الله، من حركاته وسكناته إلى الله.
أيها الإخوة؛ الفرق بين واقع المسلمين اليوم أنهم تعلقوا بالصور، وتعلقوا بالمظاهر، وتعلقوا بالألقاب العلمية، وتعلقوا بالكتب، ولكن الإيمان الحقيقي أن تتعلق بالله جلّ حلاله، وأن تصل إليه، أي ممكن أن تقيس إيمانك بقدرتك على الاتصال بالله عزَّ وجل، فالذي لا يقدر أن يتصل بالله معنى ذلك عنده مشكلة، هناك عقبات، هناك عقبات كأداء تحول بينه وبين أن يتصل بالله عزَّ وجل، هذه العقبات ينبغي أن تُزال، أي المؤمن حكيم نفسه، إذا صلى فلم يشعر بشيء، قرأ القرآن فلم يشعر بشيء، ذكر الله فلم يشعر بشيء، هناك مشكلة كبيرة، معنى ذلك الطريق إلى الله غير سالك، معناه يوجد سوء ظن بالله، أو يوجد شبهة، أو يوجد معصية، أو يوجد مخالفة، والإنسان حكيم نفسه.
الدين ذكر وشكر وإقبال على الله:
من يومين زارني أخ، وقال لي، لصوص اقتحموا بناء لي، وأخذوا حاجات بمئة ألف، أعجبني منه هذا الورع، قال لي: والله لم آسَف على ما ضاع مني، ولكنني قلقٌ على مكانتي عند الله، لعل هذا عقابٌ أستحقه لذنبٍ لا أعلمه، فقلقه لا من ضياع هذا المبلغ، ولكن خوف أن تكون مكانته عند الله مهزوزة، قلت له: والله إني أكْبَرتك، أكبرت فيك هذا الورع، وذاك الحرص، فالمؤمن الصادق يقلقه ألا يكون الله راضياً عنه، ولو رضي عنه كل الناس، الأصل أن يرضى الله عنك، الأصل أن يحبك الله، الأصل أن يقبلك الله، الأصل أن يقبل عملك، فهؤلاء الذين أنا أقول ممن يعمل في الحقل الديني، رواد المساجد، المؤمنون، طلاب العلم، هؤلاء ينبغي ألا تعنيهم المظاهر، يجب أن تعنيهم الحقائق، ينبغي ألا تعنيهم الرسوم، ينبغي أن تعنيهم الحقائق، هذا الدين على اتّساعه فيه كلمات:
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾
السيد المسيح جاءت آيةٌ كريمة على لسانه في القرآن الكريم: ﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾ أوصاني أن أتصل به، وأن أُحسِن إلى خلقه، هذا الدين، الدين ذكر وشكر، الدين إيمان وعرفان، الدين إقبال على الله، الدين إخلاص له، الدين طاعة تامة، الدين أن تشعر أنك أسعد الناس.
قال لي أحد الإخوة بعد أن حجّ بيت الله الحرام، قال كلمةً أعجبتني، ثم ترددت في صوابها، فأتبعها بكلمة فأتمّها، قال لي: والله ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، صح، أتقى إنسان هو أسعد إنسان، ولا همَّ مع الله، لا يوجد هم، فالله بيده كل شيء، حاضر ناظر، قوي غني، سميع مجيب، كل من حولك بيده.
إذاً أيها الإخوة؛ هذه المنزلة منزلة الفرار إلى الله عزَّ وجل تنطلق من قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ فِر؛ حركة سريعة، حركة فيها عزيمة، حركة فيها جِد، حركة فيها اهتمام، حركة فيها بطولة، فروا إلى الله، ممكن أن تحاسب نفسك قبل عشرين سنة عن شيء أكلته ولم تدفع ثمنه بمطعم؟ ممكن، من الفرار، ممكن أن تحاسب نفسك حساباً عسيراً عن كلمة قلتها لا تُرضي الله، عن درهمٍ أنفقته فيما لا يرضي الله، فهذا الذي فرّ إلى الله له اهتمامه الشديد، وعزيمته الصادقة، وإقباله على الله، ولا تعنيه الرسوم.
(( عَنْ أبي هريرةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ على الأبوابِ، تنبُو عنه أعينُ الناسِ لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ. ))
[ أخرجه مسلم : السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : حسن ]
(( سبقَ درهمٌ مائةَ ألفِ درهمَ كان لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأجودِهِما. ))
[ صحيح، ابن حزم: المحلى بالأثر ]
والعبرة أن تبتغي الرفعة عند الله، الرفعة عند الناس سهلة، كُنْ غنياً يُعظِّمك الناس، كن قوياً يخافك الناس، كن وسيماً ينظر الناس إليك بكل عيونهم، أعطهم سؤلَهُم يحبك الناس، العبرة أن تبتغي الرفعة عند الله، هذا معنى الفرار إلى الله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ الفرار فيه سرعة، لا يوجد إنسان يفر ببطء، هارب من عدو، يمشٍي خطوة خطوة، ليس هذا هو الفرار، الفرار فيه سرعة، والفرار من شيء مخيف إلى شيء مسعد، من مكان مقلق إلى مكان آمن، الفرار من ضيق إلى سَعَة، من خوف إلى طمأنينة، من قهر إلى سيطرة، الفرار الذهاب من هَمّ إلى سعادة، هذا هو الفرار، فروا إلى الله، فروا منه إليه، فروا من معصيته إلى طاعته، فروا من شركائه إليه، من الأغيار إليه، الفرار إلى الله منزلة من منازل السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق