الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، وأفضل الصّلاة وأتم التسّليم على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الآية التالية تبين أن الإنسان إن لم يقابل نعم الله بالشكر والطاعة فقد خسر خسراناً مبيناً:
أيها الإخوة الكرام، سورة اليوم هي سورة العاديات.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحًا (1)فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحًا (2)فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحًا (3)فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعًا (4)فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا (5)إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ (6)وَإِنَّهُۥ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ (8) ۞أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِي ٱلۡقُبُورِ (9)وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ (10)إِنَّ رَبَّهُم بِهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّخَبِيرُۢ (11)﴾
هذه السورة من جزء عم أو من الأجزاء الأخيرة التي تُقرِّع مسامع الإنسان حول آيات الله العظيمة، وتبين أن الإنسان إن لم يقابل هذه النِّعم بالشكر والطاعة فقد خسر خسراناً مبيناً، هذه الواو واو القسم، والله سبحانه وتعالى يقسم ولا يقسم، في آيات كثيرة يقول الله عز وجل:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)﴾
وفي مرات أخرى يقسم قال تعالى:
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا(2)﴾
المعنى الأول للعاديات هو الخيل:
المفسرون وقعوا في حيرة لماذا أقسم هنا ولم يقسم هنا؟ الحقيقة قد ذكرتها لكم من قبل؛ أن الله سبحانه وتعالى إذا نسب هذا الشيء إلينا يقسم بها، لأنها عظيمة بالنسبة إلينا، وإذا نسبها إليه لا يقسم لأنه هو خالقها، وهو المحيط بها، فما الكون كله في جنب ذات الله عز وجل! كن فيكون، مهما بدا لنا الكون غير محدود فالكون محدود في النهاية، والله عز وجل محيط به، فربنا عز وجل يلفت نظرنا إلى مجموعة آيات، أكثر المفسرين قالوا: إن هذه الآيات تتعلق بالخيل، قال تعالى: ﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحًا﴾ كيف تعدو؟ وكيف يخرج منها صوت خاص بها أثناء جريها الشديد؟
﴿فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحًا﴾ فإذا سارت هذه الخيل على صخرٍ رأيت الشرر يخرج من تحت حوافرها.
﴿فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحًا﴾ قد تُغِيرُ هذه الخيل على القوم الأعداء صبحاً.
﴿فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعًا﴾ قد تهيج الغبار من وراء الخيل.
مجموعة هذه الآيات بهذا السياق آية من آيات الله عز وجل :
قال تعالى: ﴿فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا﴾ أي تدخل إلى ساحة المعركة وتحقق النصر، الحقيقة مجموعة هذه الآيات بهذا السياق آية من آيات الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. ))
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)﴾
من آيات الله عز وجل الدالة على عظمته هذا الحيوان الذي سخره الله لنا نركبه، ونعدو به، وننتقل عليه من مكان إلى آخر، ونحارب عليه، وننشر الدعوة عن طريقه، ونفتح البلاد ونحن على ظهور الخيل هذا معنى، ولكن الله عز وجل كلامه كلام معجز، بمعنى أن القرآن الكريم حمّال أوجه، والقرآن الكريم ليس ملكاً لأحد، وهناك تفسير آخر لهذه الآيات يعطي معنىً متعلقاً بالآيات الكونية.
فالعاديات جمع مفردها عادية، والعادية الشيء الذي يركض ويسرع بالجري، وهي هنا السحابة، السحاب الذي تثيره الرياح، والرياح بحد ذاتها آية من آيات الله العظمى.
الهواء مبدئياً، هذا الهواء الذي نستنشقه، والذي ينقل الحرارة، هذا الهواء الذي ينقل البرودة، هذا الهواء الذي ينقل الصوت، هذا الهواء الذي يحقق التوازن عن طريق الضغط الجوي، هذا الهواء الذي يعد وسطاً مرناً في الأرض، هذا الهواء الذي ينقل الضوء، انتثار الضوء عن طريق الهواء، إذا تحرك صار رياحاً، مَن حرك الهواء؟ هناك الرياح الشرقية، وهناك الرياح الغربية، وهناك الرياح الجنوبية، وهناك الرياح الشمالية، وهناك الرياح الباردة تأتينا من الشرق، وهناك الرياح المثقلة ببخار الماء تأتينا من الغرب، وهناك الرياح التي تلطف الجو، وهناك الرياح التي تبعث في النفس الانتعاش، هذه الرياح التي تعدو ألم يقل الله عز وجل:
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)﴾
العاديات لها معنى آخر هي تلك الرياح التي يسوقها الله عز وجل:
﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ﴾ لها معنى آخر تلك الرياح التي يسوقها الله عز وجل، أحياناً تتوقف الرياح ساعات معدودات فتحس أن أنفاسنا ضاقت، وأن الجو لا يحتمل، وأن الإنسان يكاد يضجر، يكاد تضيق به الأرض بما رحبت، فإذا تحرك الهواء بعث النسيم العليل، إذا زادت حركته صار ريحاً، فإذا زاد صار رياحاً، ثم صار عاصفةً، ثم صار زعازع، ثم صار أعاصير.
الله عز وجل ضرب لنا من آياته العظمى الرياح التي تعدو في الهواء، وتسرع في جريها، لماذا تعدو؟ إنها تسوق السحاب، هذا البخار الذي ارتفع من البحر إلى الجو بفعل أشعة الشمس المسلطة على مياه البحر بخّرت هذه المياه وجعلتها سُحباً، جاءت الرياح وساقتها إلى البلاد العطشى، ساقتها إلى البلاد التي هي في أمسّ الحاجة إلى الأمطار، هذا السحاب أثارته الرياح حتى أوصلته إلى المكان المناسب، الله عز وجل في آيات أخرى يقول:
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُۥ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُۥ كِسَفًا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَٰلِهِۦ ۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48)﴾
وفي آية أخرى:
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرًۢا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِۦ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَٰهُ لِبَلَدٍۢ مَّيِّتٍۢ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)﴾
أي هذه آية كبرى وآية عظمى، الله عز وجل يحرك الهواء، إذا حرك الهواء صار رياحاً، هذا الهواء الذي يتحرك يسوق أمامه السحاب، هذا السحاب يسوقه الله عز وجل إلى بلد ميت، وينقلب إلى أمطار، تهطل الأمطار، ينبت الزرع، يأكل الناس والحيوان، تستمر الحياة هذه آية كبرى من آيات الله عز وجل.
﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحًا﴾ هذه الرياح الشديدة إذا تحركت وعدت، وكان لحركتها صوت معروف، دويّ الرياح، الله عز وجل جعل هذه السحب ذات كهربائيات، سُحب شحنتها الكهربائية موجبة، وسحب شحنتها الكهربائية سالبة، وحينما تحتك هذه السحب المتباينة تنعقد الأمطار بعملية معقدة جداً، نحن هنا نبسّط الأمور، كالمدرس الذي يعطي مثلاً واضحاً لكن على حساب الحقيقة العلمية، يقول مثلاً: الأمطار تشبه إبريقاً من الشاي ملأته ماءً، ووضعته على موقد فغلى الماء، تأتي بكأسٍ باردٍ وتضعه في طرف الإبريق، ينقلب هذا البخار المتصاعد من الإبريق إلى قطرات من الماء، هذا هو المطر.
هذا معقول وواضح ولكنه تبسيط مُخِلٌّ للحقيقة، هذه السحب تكون حارة، ثم تنتقل إلى مكان بارد تنكمش، حينما تنكمش تنعقد ذرات المطر على مادة كيميائية كبريتية بثّها الله عز وجل في سماء المطر، لكل طبقة في الجو وظيفة، وفي الجو طبقة وظيفتها أن تنعقد السحب أمطاراً فيها، لذلك الله عز وجل قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُۥ ثُمَّ يَجْعَلُهُۥ رُكَامًا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍۢ فِيهَا مِنۢ بَرَدٍۢ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِۦ يَذْهَبُ بِٱلْأَبْصَٰرِ(43)﴾
وفي آية أخرى:
﴿ وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً(14)﴾
معنى ﴿الْمُعْصِرَاتِ﴾ أي انكماش السحب بفعل مرورها في الأماكن الباردة، هذا الانكماش يعقد حبات المطر، فالذي درسه العلماء عن الأمطار شيء واسع جداً ودقيق جداً، ولكنك إذا شربت كأساً من الماء أو تناولت قطعة من الفاكهة يجب أن تعلم علم اليقين أن الكون كله ساهم في هذا الكأس من الماء.
قدرة الله عز وجل في الكون :
الشمس حجمها معروف مليون وثلاثمائة ألف مرة زيادة عن حجم الأرض، أي لو ألقينا في الشمس ميون وثلاثمائة ألف أرضاً لا تسعت لها، هذا حجمها، وأما حرارتها ستة آلاف درجة على سطحها، وعشرون مليون درجة في باطنها، وكلمة عشرون مليون درجة يعني لو ألقيت الأرض كلها في الشمس بجبالها ووهادها، وصحاريها وبحارها ومحيطاتها وكتل الثلج في قطبيها، لو ألقيت الأرض كلها في الشمس لتبخرت في ثانية واحدة، معنى عشرون مليون درجة أنك إذا ألقيت الحديد في الشمس لرأيته بخاراً، مَن منكم سمع أن للحديد بخاراً؟ نظرياً هناك بخار للحديد، كل عنصر الله عز وجل خلقه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة، أن يكون صلباً مرحلة، إذا رفعت الحرارة حينما ترفع الحرارة ذرات الحديد تتباعد عن بعضها، فإذا تباعدت أصبح مرناً، إذا تباعدت أكثر أصبح سائلاً، إذا تباعدت أكثر أصبح غازاً، لذلك الأجسام لها ثلاث حالات، حالة الصلابة وحالة الميوعة وحالة الوضع الغازي، وبين هذه الحالات حالات ثانوية، الحرارة لها علاقة بابتعاد الذرات بعضها عن بعض، لذلك أحياناً الضغط يشابه التبريد، إذا ضغطنا الهواء يصبح سائلاً، هذا الغاز الذي تشعلونه في البيت اسمه غاز، لو رججت هذه الاسطوانة لشعرت أن فيها سائلاً، كيف صار سائلاً؟ هذا الغاز حينما ضغطته صار سائلاً، لو ضغطته أكثر لصار قطعاً، لصار جسماً صلباً.
الحديد لو سخنته لصار سائلاً، بالعكس لو سخنته أكثر لصار غازاً، لو رفعت الضغط عن الأجسام لغلت وأصبحت سائلة، هذا موضوع فيزيائي معقد، هذه الذرات التي خلق الله عز وجل منها العناصر لها قوانين بالغة في التعقيد، الحرارة تؤثر في حركتها، فالحرارة تباعدها عن بعضها.
هذه الشمس حرارتها عشرون مليون درجة، وهذه الشمس عمرها خمسة آلاف مليون سنة، وتقدير العلماء أنها سوف تبقى مُتّقدة إلى خمسة آلاف مليون سنة قادمة هذا عطاؤنا، هذه قدرة الله عز وجل، لو ألقيت الأرض في الشمس لتبخرت في ثانية واحدة، بيننا وبين الشمس مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر يقطعها الضوء في ثماني دقائق.
ما قولك أن نجماً في السماء اسمه قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، برج العقرب معروف يظهر في الربيع على شكل عقرب بداخله يوجد كوكب نجم متألق جداً وأحمر اسمه قلب العقرب، هذا النجم يتسع إلى الشمس والأرض مع المسافة بينهما، إذا شربت كأس الماء يجب أن تعلم أن الشمس لها نصيب في صنعه، الشمس سلطها الله عز وجل على مياه البحار فتبخرت وأصبح بخار الماء في الجو، وجاءت الرياح فساقت بخار الماء وجعلته سحباً، الله عز وجل قال: ﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ﴾ لم يقل والعادية ضبحاً، والعاديات لأن الرياح أنواع، يوجد رياح باردة، ورياح حارة، ورياح مثقلة ببخار الماء، ورياح جافة، ورياح خفيفة، ويوجد نسيم ويوجد هواء، وهناك ريح، ورياح وأعاصير وزعازع، وهناك أنواع منوعة في حركتها واتجاهها، ويوجد جنوبية وشمالية وشرقية وغربية، وهناك رياح موسمية ورياح مدارية ورياح دائمة ورياح ثابتة أنواع منوعة.
القرآن حمَّال أوجه وهو ليس ملك أحد:
قال تعالى: ﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا﴾ هذه الرياح التي تسوق بخار الماء وتجعله سحباً كثيفة، إذا الإنسان نظر إلى السماء ورأى السحب هل يرى أن يد الله عز وجل وحدها تصنعها، وأنها إنما تسوق هذه السحب من أجل أن نشرب كأس الماء، وأن نأكل الخضراوات والفواكه والمزروعات، وأن نحيا نحن وأنعامنا؟
الله عز وجل قال: ﴿فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحًا﴾ هذه السحب ذات شحنات كهربائية متبانية، حينما تحتك ببعضها بعضاً تنعقد مياه الأمطار، هذا هو الرعد والبرق، الرعد صوت البرق، حينما تنظر إلى السماء في الشتاء وترى السماء ملبدة بالغيوم، والغيوم متحركة، وبعدئذ ترى برقاً يلمع، وبعد البرق تسمع هزيم الرعد، ما هذا الذي حصل؟ سحب مشحونة كهربائياً بشحنة إيجابية وسحب مشحونة كهربائياً بشحنة سالبة، من احتكاك هذه السحب تنعقد الأمطار هذه: ﴿فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحًا﴾ هذا الذي تراه في السماء واضح، وهذا التفسير لا يمنع التفسير الأول أن تقول أن العاديات هي الخيـل، فإذا سارت على الصخر انعقد الشرر من تحت حوافرها، القرآن حمال أوجه، والقرآن ذو وجوه، القرآن ليس ملك أحد.
﴿فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحًا﴾ فإذا انعقدت هذه السحب أمطاراً صُبَّت على الأراضي العطشى فأنبت الله بها النبات لنأكله، وأنبت للحيوان نباتاً تأكله، واستمرت الحياة، ولولا هذه السحب وتلك الشمس التي سلطها الله على البحار، ولولا أن من خصائص الماء التبخر، ولولا أن من خصائص الهواء أن يحمل بخار الماء، ولولا أن الرياح من فوائدها أنها تسوق السحب، ولولا أن هذه السحب منوعة في شحنتها، ولولا احتكاك السحب بعضها ببعض لما انعقدت الأمطار، وإذا انعقدت الأمطار هطلت على البلاد العطشى.
حينما يسمح للأمطار أن تهطل وحينما تنهمر السماء بماء المطر لا يعلم إلا الله مقدارها.
المطر قد بني على قوانين علمية بالغة الدقة لكن مفتاح التشغيل بيد الله عز وجل:
الإنسان أحياناً حينما يفكر تفكيراً بعيداً عن الله عز وجل يقول لك: يحصل تبدلات في الأجواء في الشرق الأوسط بسبب التصحر ولأن خط المطر ينتقل من مكان إلى آخر، كلما توقع الإنسان شيئاً جاءت الأحداث فخيبت ظنه وأكدت أن الأمطار بيد الله عز وجل.
الله عز وجل ثبّت أشياء وحرك أشياء، دوران الأرض حول نفسها ثابت، لا يوجد إنسان يقلق للدوران، لعدم شروق الشمس، لعدم دوران الأرض، فدورة الأرض حول نفسها ثابتة، وإشراق الشمس ثابت، هناك أشياء ثبتها الله عز وجل لماذا؟ من أجل أن نرتاح ويكون النظام ثابتاً، وصار هناك تقويم وأشهر وأسابيع وسنوات، الله عز وجل لحكمة بالغة ثبّت هذه الأشياء وثبت أشياء كثيرة، تأخذ بذرة بطيخ وتزرعها تنبت بطيخا، هذا البطيخ مطاول، هذا البطيخ كروي، هذا البطيخ أمريكي، هذا البطيخ قبرصي، هذا شمام، هذا أناناس، هذا خيار، هذه طماطم.
لكن إذا زرعت البطيخ وأنبت خياراً هذه مشكلة، الله عز وجل ثبّت قوانين البذور وثبت دورة الأرض حول نفسها، وثبت دورتها حول الشمس، إلا أن المطر جعلها بيده.
مثلاً سيارة من أحدث طراز بالغة التعقيد لكن مفتاح التشغيل بيد صاحبها، كل هذه الأجهزة معطلة إلى أن يُضَع المفتاح في مكانه ويُحرَّك كلها تعمل. والمطر قد بنيت على قوانين علمية بالغة الدقة لكن مفتاح التشغيل بيد الله عز وجل، لذلك كان دعاء الاستسقاء قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)﴾
﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)﴾
﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ(17)﴾
فأمر المطر بيد الله عز وجل، يقولون مياه الفرات قليلة، قال تعالى:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(12)﴾
دخل رجل إلى الحسن البصري وقال له: يا إمام إن زوجتي لا تنجب أولاداً، فقال له: استغفر الله، دخل عليه أناس آخرون قالوا: يا إمام إن السماء لا تمطر، فقال: استغفروا الله، احتاروا في أمره، دخل عليه أناس يشكون الفقر، فقال لهم: استغفروا الله، فقال أحد الحاضرين: عجبنا لك يا إمام كلما جاءك رجل تقول له، استغفر الله، فقال له: اقرأ قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ .
إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر ما لله عندك:
﴿ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)﴾
يا رب ما مقامي عندك؟ هل تنتهي إذا نهيتك؟ هل تأتمر إذا أمرتك؟ هل تحافظ على الصلاة؟ هل تخشى أن تقع في الحرام؟ هل تحرّر دخلك من الشبهات؟ إذا أردت أن تنظر مقامك فانظر فيما أقامك.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك، فهذه السحب التي ساقتها الرياح المنوعة، وهذه السحب المنوعة بشحنتها حينما انعقدت أمطاراً صُبّت على الأرض العطشى صباً، ﴿فَٱلۡمُغِيرَٰتِ﴾ وهطول الأمطار شيء واضح كالصبح، لكن الناس حينما بعدوا عن الله عز وجل قالوا: منخفض جوي متمركز فوق قبرص ومنخفض آخر معاكس، عندما الإنسان ترك الله عز وجل وتكلم بالمنخفضات هذه المنخفضات لم تغنه من الله شيئاً. المؤمن يرى أن الله عز وجل ساق هذه السحب، وساق هذه الأمطار.
﴿فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحًا*فأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾ الأمطار حينما تهطل ما هي إلا أشهر أو أسابيع حتى ترى الأرض مخضرة، اهتزّت وربت، انظر إلى الربيع، سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه أراد أن يصف مصر إلى سيدنا عمر، قرأت هذا الوصف في كلمات بليغة قال: "يا أمير المؤمنين مصر طولها شهر –أي مسيرة شهر- وعرضها عشر، يخطّها نهر ميمون الغدوات مبارك الروحات –نهر النيل- فإذا هي يا أمير المؤمنين عنبرة سوداء -أرض مصر سوداء خصبة- إذا هي درّة بيضاء -فيضان النيل- ثم هي زبرجدة خضراء فتعالى الله الفعال لما يشاء" . وصف بليغ طولها وعرضها ونهرها، وثلاث أحوال فيها، من حالة الجفاف إلى حالة الفيضان إلى حالة خروج النبات.
عالَم البذور عالَمٌ لا ينتهي يمثل كرم الله عز وجل :
ألقِ نظرة على مكان في الربيع؛ الأرض كلها خضراء، الأرض كلها أزهار، سبحان الله كيف جعل الأزهار على طرف الطريق، من ألقى البذور في هذا المكان بالذات؟ إذا خططت طريقاً في بستان بعد سنة أو سنتين ينبت على أطراف الطريق أنواع من الأزهار من أجل أن تؤنس المار، من أجل أن تدعوه ليسبح الواحد القهار.
فهذه المياه المباركة تثير البذور، هذه البذور سماها الله نقعاً، والنقع هو الغبار، وكل شيء يُنقَع في الماء يسمى نقعاً، وهذه الأرض المحتوية على بذور وحينما تهطل الأمطار في سوريا انطلق في السيارة من مدينة إلى أخرى، دع الأراضي الزراعية جانباً، الأراضي غير المزروعة من أين نبت الحشيش؟ من ألقى بذوره في الأرض؟
﴿ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(159)﴾
في كل مكان ألقى الله بذوراً، فإذا جاءت الأمطار غزيرة جداً أنبتت الحشيش، هذا الحشيش أين بذره؟ بذره مدفون في الأرض، فهذه الأمطار السّحّاء الغزيرة المباركة حركت هذه البذور، وعالم البذور عالم لا ينتهي، عالم يمثّل كرم الله سبحانه وتعالى، لو أن الله عز وجل خلق الأرض وخلق عليها مليار ملْيار طن بندورة، ووُضعت في طريقة تحفظ من التلف، وجاء البشر وتوالدوا وأكلوا، فلما انتهت هذه الكمية ماتوا جوعاً، الطريقة المثلى التي تجعل الإنسان يأكل مادام حياً عن طريق البذور، نبات البطيخ يحمل سبع عشرة بطيخة من بذرة واحدة، وقال لي أخ: ومن نصف غرام بذر طماطم ينتج نصف طن من الطماطم، يعني غرام من بذر الطماطم ينتج طناً، هذا عطاؤنا.
لولا الماء لما نبت الزرع ووظيفته أنه وسيط :
الخضار كلها لها بذور، الخيار له بذر، الطماطم لها بذر، البطيخ له بذر، هذا البذور إذا دفنتها في الأرض ورويتها بالماء نُقِعت به فتحرك الرشيم، الرشيم كائن حي له مواصفات لحياته يحيا من عشر إلى ثماني وثلاثين، دون العشرة وفوق ثماني وثلاثين يموت، هذا الرشيم موجود في البذرة، والبذرة هي غذاء للرشيم، إذا نقعته في الماء انتعش، وأثير وبدأ ينمو مستهلكاً المواد النشوية في البذرة؛ ماذا يفعل؟ ينبت له سويق وينبت له جُذير، لكن سرعة الجذير أسرع من السويق من أجل أن يتمكن من امتصاص المواد الغذائية في التربة، فإذا نبت السويق ونبت الجذير، والجذير انتهى بأشعار ماصة، والأشعار الماصة انتهت بقلنسوة ذرة صغيرة، وهذه الذرة تأخذ حاجتها من التراب، قد تأخذ البوتاس، قد تأخذ الكبريت، قد تأخذ الحديد، مَن علم هذه الشعرة التي لا ترى بالعين أن تأخذ سبع ميكرونات حديد، ثمانية فوسفور، وأربعة كلس، من علمها أن تأخذ النسب الضرورية محلولة بالماء، ولولا الماء لما نبت الزرع، والماء وظيفته أنه وسيط، لذلك الله عز وجل قال: ﴿أَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾ الماء مهمته أنه تحل به جميع المواد في التربة، يأتي الجذير ويأخذ من هذا الماء الذي حُلّت به المواد حاجته، أنت تزرع هذه التفاحة وتراها في الموسم القادم أزهرت، ثم عقدت ثمراً صغيراً، مثل حبة المسبحة لونها أخضر، ومن ثم كبرت، ومن ثم أصبحت تفاحة كبيرة، لها لون شهي لون أصفر كالكهرباء موشحة بخد أحمر، فيها طعم حلو، وفيها حديد، وفيها فوسفور، قوامها يتناسب مع الأسنان، ليس قاسياً وليس هشاً، ولها قشرة ذات حجم مناسب، ورائحة مناسبة، وطعم مناسب، ونكهة مناسبة، وطريقة حفظ مناسبة، القشر تعليب إلهي، ويبقى شهرين على الشجرة، وفي الثلاجات أربعة أشهر تقريباً بفضل هذا القشر، من فعل هذا؟ الله سبحانه وتعالى حينما صُبّ الماء على هذه الأرض، وحُلّت في الماء مواد التربة وجاء الجذير بتوجيه من الله سبحانه وتعالى وامتص المواد المناسبة. ضربت مثلاً: أحضر ثمرة تفاح وأجاص ودراق ومشمش وكرز وتوت وعنب بلدي، وعنب حلواني، وعنب أسود، أنواع منوعة، اجمعهم كلهم، وسنكلفك تكليفاً بسيطاً بأن تشرح لنا طعم كل فاكهة كتابة، لا تستطيع، تقول هذه تفاح طعمتها تفاح اشرح طعم التفاح لا تستطيع، من ذاق عرف، اشرح طعم المشمش تقول: ثمر حلو، والتفاح حلو، والتوت حلو، والتين حلو، والإجاص حلو، والدراق حلو، والعنب حلو، والتمر حلو، هل تستطيع أن تشرح لنا كتابة الفرق بين طعم التفاح وطعم الإجاص؟ بين طعم الإجاص والدراق؟ بين أنواع الدراق؟ بين أنواع الإجاص؟ بين أنواع التفاح؟ لا تستطيع، مَن وضع هذه النسب الدقيقة جداً؟ من أعطى هذه الفاكهة نكهتها؟ من أعطاها طعمها وشكلها ولونها وحجمها ووقت قطافها؟ من أعطاها طبيعة تخزينها؟ الله سبحانه وتعالى.
على الإنسان أن يعرف المنعم ليشكره:
﴿فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا﴾ انظر إلى الرياح المباركة التي أثارها الله سبحانه وتعالى، لو أن الله سبحانه وتعالى لم يحرك الهواء لمات الإنسان، من منكم يصدق ذلك؟ أن حياتنا موقوفة على تحريك الهواء، لو لم يحرك الله سبحانه وتعالى الهواء لم يسق الهواء السحاب
﴿ وَٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٍۢ مَّيِّتٍۢ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ(9)﴾
إذاً حركة الرياح المنوعة؛ من شرقية إلى غربية إلى شمالية إلى جنوبية، إلى رياح مشبعة ببخار الماء، إلى رياح جافة، إلى رياح عنيفة، إلى رياح هادئة، هناك رياح مدمرة، ثم ساق الله سبحانه وتعالى بها السحب؛ سحب متراكمة، سحب سوداء، سحب بيضاء، سحب محملة بالأمطار، سحب خلبية، كل هذا من أنواع السحب، وهناك سحب شحنتها إيجابية، وأخرى شحنتها سلبية ارتطمت واحتكت فانعقدت الأمطار وصُبَّت على هذه الأرض التي أودع الله فيها البذور، انتقعت البذور ﴿فأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾ نُقِعت البذور في الماء فتحرك الرشيم، من منكم يصدق أن هناك بذوراً في الغرام الواحد منها سبعون ألف بذرة، وفي البذرة رشيم ومواد مغذية للرشيم، ومحفظة تعليمات فيها خمسة آلاف مليون أمر، فتجد هذه التفاحة شديدة الاحمرار، ذات شكل طولي، من صمم هذا الشكل؟ هذا الأمر موجود في البذرة، وتفاح آخر حامض موسمه في الشتاء فيكون كبيراً ومفلطحاً، فالأول تفاح أحمر غامق ذو شكل طولي له أربع نتوءات، بينما التفاح الآخر كروي أصفر، من أعطى للتفاحة هذا المخطط، وللإجاصة لونها؟ فهذه البذرة فيها رشيم، وفيها محفظة فيها خمسة آلاف مليون أمر.
قال بعض العلماء: لو أن هذه الأوامر أردنا أن نكتبها كتابة لصار عندنا مجموعة تضاهي الموسوعات العلمية الكبرى، الموسوعات الآن ثلاثون مجلداً، وأربعون مجلداً توضع على رف بعرض الغرفة، وكل مجلد ثمانية آلاف صفحة ورق رقيق وحرف صغير، هكذا تكون الموسوعات العلمية، ولها اسم أجنبي مشهور، فلو أن هذه المحفظة وما فيها من أوامر أردنا أن نكتبها كتابة لضاهت الموسوعات العلمية الكبرى، هذا الهواء ينقل الصوت وينقل الحرارة، المكيف ينقل الهواء بارداً، والمدفئة تنقل الهواء ساخناً، والهواء ينقل الصوت وينقل الضوء، الغرفة مضيئة وليس فيها شمس، الهواء يحقق ضغطاً على الإنسان ويعمل توازناً، إذا صعد إنسان في الجو يخرج الدم من آذانه لأن الضغط ارتفع عنه، والطائرة التي ترتفع في الهواء آلاف الأقدام تُضغَط ثماني أضعاف حجمها من الهواء وهي على الأرض، حتى يتحقق ضغطاً وأنت على هذا الارتفاع الشاهق مناسباً لارتفاع الأرض.
وهذه الآية: ﴿وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحًا*فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحًا*فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحًا*فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعًا*فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا*إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ ومع كل هذا الإكرام الإنسان جاحد لكل هذه النعم، مثلاً: إذا طُرِق الباب على شخص فقير وأدخلوا إليه مائدة فيها ما لذ وطاب، من أطيب أنواع الأطعمة، والفاكهة والحلويات، فجلس وتناول الطعام إلى أن شبع، لا بد أن يسأل نفسه من الذي قدّم له هذه المائدة؟ من أتى بها؟ فعلى الإنسان أن يعرف من أرسلها ليقوم بشكره، ذات مرة أحدهم وضع لي فلة على الطاولة، ولم أعرف من هو، أريد أن أتشكره، وفي اليوم الثاني وضع فلة، وفي اليوم الثالث أيضاً، فالإنسان يشعر أنه بحاجة لمعرفة المنعم والمتفضل ليشكره، الفلة لها قيمة لأن فيها مودة.
فربنا عز وجل قال كل هذه النعم؛ الشمس والقمر والأرض وما فيها، والبحار والرياح والسحب، وهذه المستودعات من المياه والينابيع والأنهار والأمطار المنصبة والثلوج والنباتات أنواع منوعة؛ فهناك أشجار زينة، وأشجار مظلات، وهناك نباتات حدودية، ونباتات للخشب، منها زان وشوح وحور وسنديان وسويد وبلّوط هذه كلها نباتات من أجل الخشب، إلى جانب النباتات المثمرة وما فيها من أنواع للفاكهة والثمار.
هناك حكمة بالغة الذي يملك بستاناً ينبت الكرز يقطفه ويبيعه وينتهي، ثم ينبت المشمش يقطفه ويبيعه، ثم ينبت الدراق يقطفه ويبيعه، ثم ينبت الإجاص، ثم التفاح، وهناك برمجة، لو أن الله سبحانه وتعالى جعل الفاكهة تنضج كلها في يوم واحد لتعذّر على الفلاح أن يقطفها، أما الآن التفاح يقطف لمدة شهرين، الإجاص لمدة أسبوعين، الكرز لمدة شهر، من جعل النضج في تسلسل؟ هذه يد كريمة وحكيمة وعليمة، ومع هذا: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ أحياناً تطعم الكلب رغيف خبز يحرك ذنبه شكراً لك، ليت بعض الناس يرتفع لهذا المستوى، إذا أطعمت هرة تمسّحت برجليك شكراً لك، وهذا الإنسان يجلس على المائدة يأكل ما لذّ وطاب ويقول: دفعت ثمن هذه المائدة مبلغاً كبيراً، أحمق، لو أن الله ما خلق هذه المواد أنت الذي تملكه ورقاً لا قيمة له.
الله عز وجل خلق الأنعام وذللها لنا :
الذي يسير في الصحراء ركب ناقة وضلّ به الطريق، ونفد زاده، ونضب ماؤه، وكاد يموت عطشاً وجوعاً، هذه قصة فيها موعظة، وحينما اشتد به الجوع وأخذ منه كل مأخذ، ويئس من النجاة وأيقن بالموت، وضاقت نفسه وجعل يبكي، ألفى عن بعد شجرةً فأشرق في نفسه نور من الأمل، هرع نحو الشجرة فرأى إلى جانبها بركة ماء فشرب منها حتى ارتوى، ثم تولّى إلى الظل، وحانت منه التفاتة، فرأى إلى جانب البركة كيساً مملوءاً وهو على وشك الموت جوعاً، فسرَّ به سروراً عظيماً وهو يحسب أن فيه خبزاً، ولكن يا للأسف لقد فتح الكيس فلم يجد إلا لآليء فقال: وا أسفاه هذه لآلىء. أي ما قيمة اللآلىء إذا حُرمت الطعام والشراب، في بريطانيا يهودي ثري روتشيلد، كان يقرض الحكومة البريطانية، مستودعات الذهب عنده كبيرة جداً، ومرة دخل إلى مستودع من مستودعاته وبقدرة قادر، ولحكمة حكيم انغلق الباب وراءه، والباب محكم الإغلاق، صاح لا أحد يسمعه، عاش يومين ثم مات، قبل أن يموت جرح أصبعه وكتب على الحائط: أغنى رجل في العالم يموت جوعاً، مات في قلب سبائك الذهب، وهي مصفوفة من الأرض إلى السقف، فما قيمة الذهب إن لم يكن هناك كأس ما؟ وعندما يقول الإنسان لقد كلفتني هذه المائدة مبلغاً كبيراً يكون أحمق، فلولا أن الله سبحانه وتعالى تفضّل وخلق هذا الغنم ما فائدة المال! قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾
﴿ وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)﴾
﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ انظر الغنمة ما أودعها، فلم يضع الله سبحانه وتعالى فيها أخلاق الذئب أو أخلاق الضبع أو أخلاق الخنزير الوضيعة.
يجحد الإنسان نعمة الله سبحانه وتعالى مع كل الفضل و الإكرام:
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ مع كل هذا يجحد الإنسان نعمة الله سبحانه وتعالى، مع كل هذا الفضل ومع كل هذا الإكرام، مع كل هذه النِّعم المتعددة الإنسان يجحد فضل الله عز وجل! لا يرى فضل الله، ويقول: أنا وأنا، وسأفعل كذا، وسأفعل كذا، مع كل هذا لا يصلي! ولا يقرأ القرآن! لا يغض بصره عن محارم الله! لا يقول: هذا حلال وهذا حرام! ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يعجب كيف يجحد هذا الإنسان هذا الفضل؟
تَعصِي الإِلهَ وأنتَ تُظْــهِرُ حُبَّـــهُ هذا لَعَمْرِي فــي المَقـــالِ بَديــــــعُ
لَو كانَ حُبُّــكَ صَادِقـــاً لَأَطَعْتَـــهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَـنْ يُحِــــبُّ يُطِيـــــــعُ
أيا غافلاً تبدي الإســاءة والجهلا متى تشكر المولى على كل ما أولـى
عليك أياديه الكرام وأنت لا تراها كأن العيــــــــــن حولاء أو عميـــا
لأنت كمزكوم حوى المسك جيبـه ولكنه المحـــروم ما شمه أصـــــلا
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ*وإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ شهيد لها معنيان؛ أي هذه الآيات واضحة، من منكم لم يرَ المطر، لم يحس بالرياح، لم يرَ البحر والسحاب، لم يرَ الينابيع والأنهار، لم يرَ هذه الأشجار والنباتات؟ هناك اشجار طبية، فالله عز وجل خلق نباتات خاصة للعلاج، فتجد علم الطب قائم على النباتات؛ نباتات للزينة، نباتات للطعام، نباتات للمشروبات كالشاي والقهوة، بالغ الإكرام، نباتات سياجية حدودية، نباتات مظلات، نباتات للأخشاب، هذا فضل الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ*وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ هذه النعم يشاهدها، بادية للعِيان، هذه النعم يراها كل إنسان لا تخفى على أحد، ألم يرَ الإنسان أنا خلقناها له؟
بعض نعم الله سبحانه على عباده :
نِعَم الله تراها كل يوم صباحاً يوجد على الطعام مثلاً بيض مسلوق، وهذا موضوع للتفكر قائم بحد ذاته، هل فكرت بالدجاجة ماذا تأكل، وكيف أنتجت هذه البيضة التي هي غذاء كامل؟ والدليل أنها تصبح فرخاً، والفرخ له جهاز عظمي وعضلات وأجهزة كاملة، حيوان كامل مكمل من هذه البيضة، إذاً هي غذاء كامل، من خلق للفرخ نتوءاً بمنقاره كي يكسر القشرة، بعد أن يخرج إلى الدنيا يتلاشى هذا النتوء، فهو بمثابة مفتاح للخروج، في البيضة ثمانية عشر فيتاميناً، وثمانية عشر شبه معدن، ومئتا نوع من أنواع المواد، البيضة تُدرّس عاماً دراسياً في كلية الزراعة، موضوع الدواجن موضوع معقد جداً، ويوجد على الطاولة كأس حليب، هل فكرت بالحليب من أين جاء؟ وهذا اللبن السائغ قال تعالى:
﴿ إِنَّ لَكُمْ فِى ٱلْأَنْعَٰمِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيْنِ فَرْثٍۢ وَدَمٍۢ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِّلشَّٰرِبِينَ (66)﴾
هل فكرت أن وليدة البقرة تحتاج إلى كيلو من الحليب وهي تعطي ثلاثين كيلو من الحليب، معنى هذا أن الحليب لك، وليس للوليدة، فهي تحتاج إلى كيلو فقط، بينما تعطيك ثلاثين كيلو كل يوم، هذا البقر السمين، وبجانب الحليب كأس من الشاي، الشاي نبات من خلقه؟ وتضع ملعقة سكر، من خلق الشوندر؟ رغيف خبز كان قمحاً، من صمم القمح على أنه غذاء كامل؟ زيتون، إذا فكرت صباحاً في طعامك تذوب محبة لله عز وجل، تأتي الظهر هناك نوع آخر من الأطعمة مثل (منزلة بأسود) وهي عبارة عن باذنجان محشي باللحمة والبصل، من خلق البصل؟ إذا فُقِد البصل في السوق لأسبوع يتذمر الناس ويقولون: لا يوجد بصل في السوق، بينما عندما يكون متوفراً هو والثوم يكون مطمئناً، إن ألغيت الثوم من حياتك لا تستطيع أن تأكل الطعام، أحياناً تحتاج إلى سن ثوم واحد، اطبخ شيخ المحشي بلا صنوبر لا تقدر، سعره مرتفع لمنه ضروري ولو كمية قليلة، من خلق البهارات كالفلفل والفليفلة الحمراء، حضّر طبقاً من السلطة دون طماطم، لا تستطيع أكله، فقط فليفلة وخيار وبقدونس، لا يؤكل، بحاجة للون أحمر يبعث الشهية، من جعل الطماطم لونها حمراء، شهية؟
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ ألم تر النعم؟ جاء ولدك وقال لك: بابا، كان نقطة من ماء مهين صار طفلاً يتكلم ويضحك يداعبك أحياناً ويقلدك أحياناً، لطيف وناعم، وجعله الله سبحانه وتعالى في البيت مثل المَلك يبعث البهجة في كل أفراد الأسرة، هذه مودة من الله، لو جعله غليظاً وشخصيته مثل الكبار لا تستطيع أن تكلمه، حينها لا يُطاق الولد، بينما الطفل بعد أن يُعاقب من والده يأتي إليه ضاحكاً، طالباً السماح، فالطفل ليس لديه حقد، بينما لو جعله الله يحقد ويتكبر على والديه عندها لا يطاق الطفل، من الذي يربيه؟ تأتي الظهر وترى زوجتك جالسة قال تعالى:
﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
تجدها في خدمتك، وترى البيت نظيفاً مرتباً، الطعام جاهز، وهي ترتدي أجمل الثياب: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾
كلمة (إنه على ذلك لشهيد) لها معنيان :
عندك غرفة تنام فيها، وغرفة جلوس، غرفة طعام، حمام، مطبخ، تملك مفتاح بيت: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ﴾ أعطوني نكاشة للأسنان أو مسواك، أو خلة، وبالمناسبة بالنسبة للنبات، هناك نبات لليف فقط إن أردت الاستحمام، له وجه ناعم من الداخل وآخر خشِن من الخارج، أليست هذه نعم الله؟ لمن خُلقت هذه؟ خُلقت خصيصى لك أيها الإنسان.
تريد أن تزور مريضاً تأخذ معك باقة ورد، مَن خلق هذا الورد الجوري الجميل والقرنفل، اللون الأحمر في الزهور أجمل لون في الأرض، فالأزهار تبعث في النفس البهجة، فتجد نفسك مسروراً لوجود بضعة زهور طبيعية في البيت، ضع وروداً اصطناعية لا تؤثر بك، بينما وردة واحدة تؤثر بك، من خلق الفل؟ أعطوا الحمار فلة فأكلها، الحمار الذي أعطاه إياها، هذه للإنسان وليست للحمار.
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ*وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ هذه النعم يشهدها تحت سمعه وبصره، يعيشها كل يوم صباحاً وظهراً ومساءً.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ هذه الآية لها معنيان، وكلمة ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ أيضاً لها معنيان، المعنى الأول أن هذه الآيات تحت سمعه وبصره يشهدها.
المعنى الثاني أنه يشهد على نفسه أنه جحود ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ﴾ الجحود ﴿لَشَهِيدٌ﴾ ، لا يصلي يكذب، ويغش الناس، يؤذي، ويتكبر ويسبب للناس متاعب كثيرة، ويؤذيهم، ويستعلي على الناس، ويقول أنا وأنا، وإنه على جحوده لشهيد، ألم تفعل كذا وكذا؟ ألم تفعل كذا وكذا؟ ألم تؤذِ فلاناً؟ ألم تأكل حقه؟ ألم تستعلِ عليه؟ ألم تعذبه؟ كله مسجل ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ أول معنى شهيد لهذه النعم العظمى، والمعنى الثاني شهيد على جحوده.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ الإنسان أحياناً يحب مصلحته، هنا الخير أي المال قال تعالى:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ(180)﴾
يحب المال، أحياناً في مجلس علم ينام أما عندما يعد خمسمئات لا ينام يمسكها خوفاً من أن تكون اثنتين، وإذا كان يعطيها لأحد يتأكد تماماً أنها واحدة لا اثنتين.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ إن كان هناك موسم طيب في البيع والشراء ينسى تناول طعام الغداء، يقول لصانعه: هل تناولنا طعامنا اليوم؟ لم نأكل أليس كذلك؟ فينسى الغداء كله ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ يحب المال، مع أن المال في خدمته، والإنسان من جهله صار في خدمة المال، صار عبداً للمال، والعلماء فرقوا بين الرزق والكسب، الرزق المستهلكات، أما الكسب ما عندك من أموال هذه ليست لك، هو اسمه (ماله) أي ليس له، عندما يُدفن الإنسان في التراب كفنه من الخام الأسمر لأن الأبيض غالي الثمن، وعليه قليل من القطن فقط، فالساعة تُخلَع من يده، وإن كان في فمه بعض الأسنان من الذهب يخرجونها، وخاصة إن كانوا في حاجة ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ .
الخير لها معنيان المال أو المصلحة:
الإنسان يحب المال مع أنه قد يكون سبب شقائه، قد يكون فيه طغيانه، قد يطغى في المال، وقد يشقى في المال.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ المعنى الآخر للخير أنه يحب مصلحته، يحب السلامة، يحب النجاة، يحب كل شيء ممتع في الدنيا، انطلاقاً من هذا الحب لو أن الإنسان أحبّ نفسه حباً جماً لأطاع الله سبحانه وتعالى، لأن الخير كله في طاعة الله سبحانه وتعالى، والسعادة كلها في طاعة الله، والطمأنينة كلها في طاعة الله، والفوز كله في طاعة الله، والفلاح كله في طاعة الله، والنجاح كله في طاعة الله، فإذا أحببت نفسك وكنت مفرطاً في حب ذاتك استقم على أمر الله، لكن الإنسان يتوهم أن المال هو كل شيء، المال شيء، "خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هَمًّا" .
(( من أخذَ مِن الدّنيا أكثرَ مما يكفِيه؛ أخذ حَتفَه وهو لا يشعرُ ))
الإنسان يحب المال وقد يطغى بالمال:
الإنسان يحب المال وقد يكون حتفه في المال، يحب المال وقد يكون شقاؤه في المال، قال تعالى:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾
يجوز أن تكره ضيق الدخل، تكره الدخل المحدود فتقول: المعاش لا يكفي ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ قد تكون بالدخل المحدود مؤمناً فإذا زاد الدخل فسقتَ وخرجت عن أمر الله، وعصيت الله سبحانه وتعالى، واستعليت على الخلق. هذا الذي جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال. الإنسان لا يتمنى قال تعالى:
﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبُواْ ۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا ٱكْتَسَبْنَ ۚ وَسْـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا(32)﴾
لعل الخير كله في الدخل المحدود، لعل الخير كله في هذه الحياة المتواضعة، بهذا البيت، بهذه الزوجة، ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ ، الإنسان يحب المال وقد يطغى بالمال لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( بادِروا بالأعمالِ سبعًا هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا أو غنىً مُطغيًا. ))
هناك غنى مطغي يودي بصاحبه للاستكبار والاستعلاء، ماذا قال قارون؟ قال الله تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ(78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ(80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ(81)﴾
الله سبحانه وتعالى ترك الأعمال ووصل إلى النوايا:
معظم الناس يتحدثون عن بيت كبير لفلان فيقولون: هنيئاً له على هذا البيت؟ هذا القول كأنك قلت: يا ليت لنا مثل ما أوتي فلان، فيلا كبيرة وبستان في مكان جميل مطل على الشام، يا ليت لنا مثل ما أوتي فلان، الإنسان يتمنى فضل الله، يتمنى رضاء الله، يتمنى طاعة الله، قال تعالى:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ﴾ أفلا يعلم هذا الذي يحب المال ﴿أَفَلَا يَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِي ٱلۡقُبُورِ﴾ وخرج الناس لرب العالمين بُعثوا ليوم الدين ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ﴾ كل أعمالهم مسجلة عليهم، ومسجل عليهم نياتها، والنيات أبلغ لأنها مبعث العمل، والعمل أساسه النية، والإنسان يفكر بشيء ثم ينطلق إلى العمل، الله سبحانه وتعالى ترك الأعمال ووصل إلى النيات.
﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ*وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ* إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِنۢ بَعْدِ نُوحٍۢ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًا(17)﴾
خبرة الله سبحانه وتعالى بنيات الإنسان يوم القيامة تكفيه حساباً دقيقاً، لذلك الإنسان في الآخرة يود:
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)﴾
ولو أن له ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به، ولكن:
﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍۢ شَيْـًٔا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(48)﴾
هذا اليوم الرهيب؛ يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يفصل الله بين الخلائق، يوم يعطي كل ذي حق حقه، لمثل هذا اليوم فلنعمل، قال تعالى:
﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَٰمِلُونَ(61)﴾
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾
[ سورة المطففين ]
لذلك هذه السورة إن شئتم أن تفهموها على أنها الخيل وما يتبعها هذا فهم صحيح، ومعظم التفاسير جاءت بذلك، وإن شئتم أن تفهموها على أنها آيات كونية متعلقة بالرياح والسحاب والمطر وإنبات المزروعات، وهذه النِّعم التي لا تحصى التي أنعم الله بها علينا، والإنسان بعد كل هذا كنود، يحب المال، يعرض عن الله عز وجل، والمقطع الأخير مقطع تهديد ووعيد، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ*وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ*إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾.
الملف مدقق