وضع داكن
18-05-2025
Logo
الدرس : 63 - سورة النساء - تفسير الآيتان 148-149 العفو ومراتبه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أثر البيئة في التربية الصحيحة:


أيُّها الإخوة الكرام: مع الدرس الثالث والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثامنة والأربعين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)﴾

[ سورة النساء ]

أيُّها الإخوة الكرام: في هذه الآية توجيهٌ لمجتمع المؤمنين، من أجل أن يبقى نقياً طاهراً، وأن تبتعد عنه مقالة السوء، فالله سبحانه وتعالى يُبيِّن أنه: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) .
هناك دليلٌ قويٌ على سلامة الإنسان، وسلامة نُطقِه وحديثه إذا نشأ في بيئةٍ مُنضبطة، لو أنَّ ابناً نشأ في أسرةٍ لسانها مُنضبط، هذا الطفل لا ينطق بكلمة سوء في كل حياته، الأسرة المُنضبطة النظيفة في أقوالها وفي أفعالها، تنعكس طُهراً واستقامةً على الأبناء، ولو نشأ طفلٌ في بيئةٍ مُنحطَّة، وفي أسرةٍ مُتفلِّتة، وليست مُنضبطة، ينطِق بكلمات السوء بشكلٍ غير طبيعي، إذاً أثر البيئة في ضبط لسان الإنسان كبير، أحياناً ينشأ الابن في أسرةٍ نظيفةٍ مُنضبطة، فإذا بالأب يسمع منه فجأةً كلمةً نابية، يبحث من أين هذه الكلمة؟ من علَّمه هذا الكلام؟ ثم يكتشف أنه سمعها في الطريق من ولدٍ مُتفلِّت، أو سمعها من رفيقٍ في المدرسة، من طالبٍ ليس مُنضبطاً بمنهج الله عزَّ وجل، إذاً كأن الله سبحانه وتعالى يريد لنا، أن ننشأ في بيئةٍ طاهرةٍ طيبةٍ منضبطة ( لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) .

من خصائص الإيمان الانضباط بالقول:


ويا أيُّها الإخوة: قد تُعاشر إنساناً مؤمناً سنواتٍ وسنوات، وقد تزيد على ثلاثين عاماً، ولا تسمع منه كلمةٍ نابية، ولا كلمةٍ فاحشة، ولا كلمةٍ خسيسة، إذاً الإيمان من خصائصه الانضباط بالقول، لذلك ورَدَ في بعض الأحاديث، أنَّ أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

(( يا رسولَ اللَّهِ أخبِرني بعمَلٍ يُدخلُني الجنَّةَ، ويباعدُني منَ النَّارِ، قالَ: لقد سَألتَ عظيمًا، وإنَّهُ ليسيرٌ على مَن يسَّرَهُ اللَّهُ عليهِ، تعبدُ اللَّهَ لا تشرِكُ بِهِ شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجَّ البيتَ ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ ؟ الصَّومُ جنَّةٌ ، والصَّدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يطفئُ النَّارَ الماءُ، وصلاةُ الرَّجلِ مِن جوفِ اللَّيلِ ، ثمَّ قرأَ ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتَّى بلغَ (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ برأسِ الأمرِ، وعمودِهِ ، وذروةِ سَنامِهِ؟ الجِهادُ ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قلتُ: بلَى، فأخذَ بلسانِهِ، فقالَ: تَكُفُّ عليكَ هذا قلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ وإنَّا لَمؤاخذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ قالَ: ثَكِلتكَ أمُّكَ يا معاذُ وَهَل يُكِبُّ النَّاسَ على وجوهِهِم في النَّارِ، إلَّا حصائدُ ألسنتِهِم ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد ]

(( لا يَستقيمُ إيمانُ عبْدٍ حتى يَستقيمَ قلْبُه، ولا يَستقيمُ قلْبُه حتى يَستقيمَ لِسانُه ))

[ أخرجه أحمد ]

وضبط اللسان من خصائص المؤمن، من صفات المؤمن.
أيُّها الإخوة: من عدَّ كلامه من عمله نجا، كلامك من عملك: 

(( إنَّ الرجلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

((إنَّ قذفَ المُحْصَنَةِ يَهْدِمُ عَمَلَ مِئَةِ سَنَةٍ ))

[ أخرجه الطبراني ]

أحياناً طُرفةٌ فاحشة تُربِك الجلسة، وتذهَب بخواطر الحاضرين إلى أماكنٍ ما كان لهم أن يرتادوها لولا هذه الطرفة الخسيسة، فلذلك: 

(( ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ ))

[ أخرجه الترمذي وأحمد  ]

الكلام الفاحش لا يمكن أن يقوله المؤمن، لا يقوله ليس انضباطاً ولكن ذوقاً.

(( نِعمَ العبدُ صُهَيْبٌ، لَو لَم يخَفِ اللَّهَ لم يعصِهِ ))

[ الألباني السلسلة الضعيفة ]

الإنسان أحياناً ترتقي نفسه إلى مستوى الشريعة، فلو أنَّ هذا الكلام ليس مُحرَّماً النطق به ما تكلم به (نِعمَ العبدُ صُهَيْبٌ، لَو لَم يخَفِ اللَّهَ لم يعصِهِ) .

سمح الله للمؤمن إذا قيل فيه سوء أن يأخذ حقَّه:


النقطة الأولى أيُّها الإخوة: نحن نتكلم بما نسمع، فإذا سمعنا الحقّ نطقنا به، إذا سمعنا قِصص الأبطال نطقنا بها، إذا سمعنا قِصص المُنحرفين نطقنا بها، إذا سمعنا قِصص الظالمين نطقنا بها، إذا سمعنا قِصص العُصاة نطقنا بها، إذا سمعنا قِصص الأبطال، قِصص العلماء العاملين، قِصص الفاتحين، قِصص القادة العِظام، كان هؤلاء قُدوةً لنا، فشيءٌ خطيرٌ جداً ودقيقٌ جداً، أن يكون الحديث حديث سوء، والله عزَّ وجل أراد أن يُنقّي هذا المجتمع من قالة السوء.
ولكن الله خبير، طبيعة النفس البشرية أنها إذا جُرِحت تتألم، وإذا جُرِحت تريد أن تأخذ حقَّها، ولأنَّ هذا القرآن كلام الخبير، قال تعالى:(لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) إنسان اعتدى عليك بلسانه، وجرَّحك، واتَّهمك بما ليس فيك، أنت كبشر لا ترضَ أن تُجرَّح دون أن تأخذ حقَّك منه، لا ترضَ أن تُتَّهم اتهاماً أنت منه بريء، دون أن تأخذ حقَّك منه، لذلك سمح الله للمؤمن إذا قيل فيه سوءاً أن يأخُذ حقَّه (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) .
لذلك علماء الفقه استثنوا المظلوم حينما يشتكي على من ظلمه، أن يتكلم للقاضي ماذا حدث دون أن يُعدَّ هذا غيبةً، حينما تشتكي على إنسانٍ ظلمك بلسانه لقاضٍ نزيه، لك أن تقول ما قال فيك، وهذه مقالة سوء، لكنك معفوٌّ من أن تؤاخذ، لأنك تأخذ حقَّك بهذا، إذاً: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) .
 والعياذ بالله قد تجلس مع أُناسٍ كل حديثهم متعلقٍ بالجنس، وكل كلماتهم ملغومة، وكل طُرَفِهم متعلقةٍ بالقسم الأسفل من الإنسان، وكل مُزاحِهم مُزاحٌ رخيص، مثل هؤلاء بعيدون عن الإيمان، والشيء المؤسف أحياناً، أنك تجد أُناساً من رواد المساجد، إذا مَزحوا مزَحوا مُزاحاً رخيصاً، ومَزحوا مُزاحاً يخجل الإنسان أن يستمع إليه وحده، فكيف في مجموع؟!!

ضوابط ينبغي الإلتزام بها لمن أراد أن يأخذ حقه ممن ظلمه:


(لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) الآية واسعة جداً، ممنوع أن تنطق بكلمة السوء، سواءٌ أكانت غيبةً أو نميمةً أو مُزاحاً أو الهدف إضحاك الآخرين، الكلام السيئ الذي يُجرِّح الأشخاص ويُثير الغرائز ممنوعٌ أن تنطق به، ممنوعٌ بحُكم الشرع، لكن بعد أن ترتقي، بعد أن تتصل بالله عزَّ وجل، بعد أن تصطبغ نفسُك بصبغة الله عزَّ وجل، بعد أن تسمو نفسُك لا يمكن أن تنطق بكلمة السوء، ولو أنها ليست مُحرَّمة، نقول عندئذٍ:  أنَّ هذا الإنسان ارتقت نفسه إلى مستوى الشريعة.
أيُّها الإخوة: ولكن أنت حينما تريد أن تأخذ حقَّك الذي شَرَعه الله لك، هناك ضوابط، قال تعالى: 

﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾

[ سورة البقرة ]

أمّا أن تقول للآخرين: سأكيل له الصاع صاعين، فهذا كلامٌ ليس شرعياً، هذا كلامٌ جاهلي. 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

[ سورة الشورى ]


كلما صغر الإنسان عند الله ينتقم وكلما كبر يعفو:


لكن قد يجد الإنسان صعوبةً بالغة في أن يأخذ حقَّه بالتمام والكمال، ولو كان وَرِعاً يخشى أن يزيد، يخشى أن يقع في الظلم، فيأخذ أكثر من حقِّه، لذلك فتح الله لنا باب العفوِ، والعفو أسلم، فحينما ترى أنه من الصعوبة بمكان، أن تنال من الذي ظلمك بقدر ما ظلمك تميل إلى العفو، والله عزَّ وجل يُحب أن تعفو عن أخيك، يعني أنت حينما تعفو عن أخيك ترتقي إلى أعلى عليين، مرتبة العفو تفوق حدَّ الخيال، مرتبة العفو مرتبةٌ عاليةٌ جداً، بل إنَّ الشعور المُسعِد الذي يتأتَّى من عفوك عن أخيك هو أضعافُ أضعاف شعور الفوز حينما تنتقم، الإنسان كُلما صَغُر عند الله ينتقم، وكلما كَبُر يعفو.
أهل مكة أيُّها الإخوة، نَكَّلوا بأصحاب النبي عشرين عاماً، ما تركوا سبيلاً لإيذاء النبي وإيذاء أصحابه إلا سَلكوه، وخاضوا معه حروباً عدة، فلما فُتحت مكَّة، وكان عشرة آلاف سيفٍ متوهجة تنتظر كلمةً من بين شفتي النبي عليه الصلاة والسلام، قال لهم: 

(( معشر قريشٍ، ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ!! قال: فإني أقولُ لكم ما قال يوسفُ لإخوتِه: لا تثريبَ عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاءُ ))

[ الألباني ضعيف ]

بعد أن كان مُقتدراً أن يُلغي وجودهم، بعد أن مَلَكَ ناصيتهم، قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاءُ) سمح الله لك أن تأخذ حقَّك ممن ظلمك، وهذا حقٌّ مشروع، والعدل قسري، بينما العفو طوعي، ولا تنسَ أنك مأمورٌ بالإحسان كما أنك مأمورٌ بالعدل، بدليل آيةٍ يذكرها خطباء المساجد من مئات السنين: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾

[ سورة النحل ]

كما أنك مأمورٌ بالعدل أنت مأمورٌ بالإحسان، لكن العدل قسري، بينما الإحسان طوعي، ما كلَّفك فوق ما تُطيق، إن أردت أن تنتقم، أو إن أردت أن تأخذ حقَّك ممن ظلمك، لك ذلك، ولكن إن أردت أن تأخذ حقَّك فينبغي أن تأخذه بالتمام والكمال من دون زيادة، وهذا شيءٌ ليس سهلاً، لذلك فتح لك باب العفو. 
أيُّها الإخوة: يبدو أنَّ بعض النفوس حينما تأخذ حقَّها ترتاح، هذه جِبلةٌ جُبِل عليها الإنسان، الشرع ليس لقلةٍ قليلة، وليس الشرع لخواص الناس، بل هو لمجموع الناس، فهناك إنسانٌ لا يَقرُّ له قرار إلا إذا أخذ حقَّه ممن ظلمه، قال له: أنت لك أن تأخذ حقَّك ممن ظلمك (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ)

الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى سمح للذي ظلم أن يجهر بالسوء عمن ظلمه:


لكن ما الحكمة من أنَّ الله سبحانه وتعالى، سَمَح للذي ظُلِم أن يجهر بالسوء عمن ظلمه؟ قال: هذا الظالم بقوله، بفعله، بأخذ مال أخيه، بالاعتداء على عِرض أخيه، إذا ذُكر فعله السيئ تَجنَّبه الناس، واتَّقاه الناس، وسَلِم منه الناس، إذاً هناك حكمةٌ اجتماعيةٌ أنَّ هذا الذي ظلم، أو الذي اختلس، أو الذي اعتدى حينما يُذكَر بين الناس بفعله السيئ، حينما يقول الذي ظُلِم: أنه فعل معي كذا وكذا أمام القاضي، وأمام ملأٍ من الناس، الناس عندئذٍ يتحاشون أن يتعاملوا معه، إذاً وقينا المجتمع من شرِّ هذا الإنسان. 
الآن هناك حكمةٌ ثالثة: هذا الذي ظَلَم، حينما يظهر عمله للمجتمع، وحينما يُفتضَح، يرتدع، ثم إنَّ الذي يريد أن يَظلِم قبل أن يَظلِم يَعدُّ للمئة، لأنَّه إذا ظلَم سوف يُفتضَح، إذاً حكمةٌ بالغةٌ بالغة من أنَّ الله سبحانه وتعالى حينما قال: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) المظلوم يُنفَس عن كربه حينما يأخذ حقَّه، والظالم يُتَّقى من قِبَل الآخرين، فلا يتعاملون معه مرةً ثانية، والظالم نفسه حينما يُفتَضح عمله يكون رَدعاً لبقية الظالمين أن يسيروا في هذا الطريق، إذاً حِكَم الشرع لا تعدُ ولا تحصى.
يعني الإنسان يُعدُ ذكياً وعبقرياً، حينما يُصيب عصفورين بحجرٍ واحد، لكن تشريع الله عزَّ وجل يُصيب أهدافاً لا تُعد ولا تُحصى بحُكمٍ واحد، فالذي ظُلِم شُفيَ غليله فأخذ حقَّه، والظالم نَبَّهنا الناس إلى أنه ظالم لئلا يتورطوا معه، والظالم نفسه حينما يرى نتيجة عمله لا يُتابع هذا الطريق، فيرتدع عن أن يَظلِم مرةً ثانية، وهذا يُذكرنا بقوله تعالى: 

﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾

[ سورة البقرة ]

القاتل حينما يُقتَل، الآن قاتِل آخَر قبل أن يَقتُل يرى مصير القاتِل فلا يَقتُل، فحفِظَ نفسه من أن يُقتَل، وسَلِم الذي كان يُزمِع أن يَقتله من أن يُقتَل، فكأن القتل للقاتل تطهيرٌ للمجتمع وحياةً له.

المسلم عزيز لا يسمح لأحد أن ينال منه:


مرةً رأيت في إحدى محاكم الجنايات، آيةً وضعت فوق رأس القاضي يراها المُذنبون، الآية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) ووضعت آيةٌ فوق رأس المذنبين، من يقرأها؟ القاضي: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)﴾

[ سورة النساء ]

فهذا توجيهٌ للقاضي، وتطييبٌ لقلب المُذنبين حينما ينزل بهم القصاص الأليم.
الآن هذه الآية: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) ، تُذكِّرُنا بآيةٍ ثانية: 

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39)﴾

[ سورة الشورى ]

يعني مسلم خنوع! مسلم يُظلَم فيسكُت! يؤخَذ حقَّه فيخاف أن يُطالب بحقِّه؟! هذا ليس عند الله وجيهاً، من صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) المسلم عزيز لا يسمح لأحدٍ أن يَنال منه، لأنه إذا نال منه في الحقيقة نال من إسلامه، ونال من دينه.

من عزَّة المسلم ومن كرامته عند الله أنَّ الله سَمَح له إذا بُغيَّ عليه أن ينتصر:


وحينما يؤذى إنسانٌ مسلم، قد يكون الإيذاء لا يستهدف هذا الإنسان بالذات، بل يستهدف دينه، وهذا الذي يجري في العالم الإسلامي، ليس الأشخاص هم المقصودين، ولكن الدين الإسلامي هو المقصود، هناك أعمالٌ ماكرةٌ خبيثةٌ يفعلها الطرف الآخر، لا للتشهير بأشخاصٍ مُعيِّنين بل للتشهير بالمسلمين، فلذلك من عِزّة المسلم ومن كرامته عند الله عزَّ وجل، أنَّ الله سَمح له إذا بُغيَّ عليه أن يَنتصر، والله عزَّ وجل قال: 

﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)  بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾

[ سورة الروم ]

(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) أمّا إذا انتصروا هنا المشكلة، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)
ثم يلفِت الله نظر المؤمنين، قال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ، ولهذه الآية مَلمحٌ لطيف، حينما يغلب على ظَنِّك أنَّ عفوك عن أخيك يُصلِحه، أنت كمؤمن ينبغي أن تعفو عنه، لأنك إن عفوت عنه أنقذته من بلاءٍ لا ينتهي، وعندئذٍ يتولَّى الله مكافأتك، فلو فرضنا أن ملِكاً قال لإنسان: أنا سأعطيك شيئاً يُرضيك، الملِك ماذا يعطي؟ يُعطي قلم رصاص؟! يعطي بيتاً، أقل شيء بيت، أنا أضرب المثل للتوضيح.
لمّا الله عزَّ وجل يقول: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي يا عبدي أنا أتولَّى مكافأتك، حينما تعفو عن أخيك، وحينما تُقرِّبه إلى الله، في حالات مثلاً قد يكون الطفل طائشاً، قفز أمام سيارة ودُهِس، طبعاً الأب من حقِّه أن يأخذ كل ما شَرَع له الشرع والقانون، لكن إذا كان السائق صالحاً وفقيراً، والخطأ ليس منه أبداً، فجاء الأب وعفا عنه، أولاً هذا السائق حينما يرى أنَّ في مجتمع المؤمنين مَن يُقدِّر وضعه، ومَن يَرحم، ومَن يعفو، يتألق، في حالات حينما يغلب على ظنِّك أنَّ عفوك عن أخيك يُصلِحه ويُقرِّبه إلى الله، ويُقرِّبه من الإيمان، ينبغي أن تعفو عنه، وعندئذٍ يتولَّى الله مكافأة العفوّ الذي عفا عن أخيه، العفو أيُّها الإخوة مرتبة عالية جداً.

بعض القصص عن عفو النبي الكريم عمن آذاه:


تروي كتب السيرة أنَّ ثُمامة بن أثال كان من ألدِّ أعداء النبي، لم يكتفِ أنه عدوٌ فكري، بل كان مُعتدياً على أصحاب النبي، وعدوانه شنيع، وقع أسيراً بيد قائد سرية، ولا يعلم من هو، فلمّا جاؤوا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هو زعيم قوم، قال: 

(( بَعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ برَجُلٍ مِن بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ له: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي خَيْرٌ يا مُحَمَّدُ؛ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ منه ما شِئْتَ، فَتُرِكَ حتَّى كانَ الغَدُ ، ثُمَّ قَالَ له: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: ما قُلتُ لَكَ: إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حتَّى كانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي ما قُلتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، يا مُحَمَّدُ، واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ، وإنَّ خَيْلَكَ أخَذَتْنِي وأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ له قَائِلٌ: صَبَوْتَ! قَالَ: لَا، ولَكِنْ أسْلَمْتُ مع مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا واللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ))

[ صحيح البخاري ]

وكان عفو النبي عنه سبب إسلامه، وقد نكَّل بأصحاب رسول الله، النبي عليه الصلاة والسلام مُتميز أنه يَقلِب العدوّ إلى صديق، وثمَّة أشخاص متميزون بقلب الصديق إلى عدوّ، الإنسان الأحمق يقلِب أصدقاءه إلى أعداء، والإنسان الكامل يَقلِب أعداءه إلى أصدقاء، فالقضية قضية أن تُحبِّب الناس بهذا الدين لا أن تكون قاسياً. 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[  سورة آل عمران ]


على المؤمن أن يكون أمْيَل إلى العفو منه إلى الانتقام:


سيد الخلق، وحبيب الحقّ، الذي أوتيَّ المعجزات، أوتيَّ القرآن، جاءه الوحي، كان فصيح البيان، جميل الوجه، كماله رائع جداً، هذا الإنسان النبي المُرسل، الذي يُوحى إليه، الذي معه المُعجزات، طليق اللسان، الحكيم، الرحيم، اللطيف قال له: أنت يا محمد: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فإذا شخص لم يكن نبياً، ولا رسولاً، ولا يوحى إليه، ولا معه قرآن، ولا معه معجزات، وليس جميل الصورة، ولا فصيح اللسان، وهو غليظ فكيف يكون الأمر؟!! (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) .
أيُّها الإخوة هذه الآية دقيقة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) فإذا انتصروا: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) أي أصلح أخاه بعفوه عنه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي كُن أمْيَل إلى العفو منك إلى الانتقام. 

الفرق بين أخلاق الجهاد وأخلاق الدعوة:


﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)﴾

[ سورة التوبة ]

في القتال لا يوجد لين، القتال ليس فيه: شكراً، آسف، سامحني، القتال قتال، أخلاق القتال هكذا، أمّا أخلاق الدعوة: 

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

[ سورة فصلت ]

ينبغي أن نُفرِّق بين أخلاق الدعوة وبين أخلاق القتال، الآن إذا أصابك سوءٌ من أخيك فهناك ثلاث مراتب: أولاً مرتبة لك أن تَأخُذ حقَّك منه ولا شيء عليك، وهذا من طبيعة النفس البشرية، لكن أرادك الله أن تسموّ عن هذا، قال: 

﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾

[ سورة آل عمران ]

أنت كالمِرجَل تغلي، لكنك كظمت غيظك، هذه مرتبة (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فالإنسان في حالاتٍ كثيرة جداً يكون قوياً، والذي أساء له ضعيف، ويستطيع أن يُفتِّته، لكن يضبط. 

(( الإيمانُ قيَّدَ الفَتْكَ، لا يَفتِكُ مُؤمِنٌ ))

[ أخرجه أبو داوود ]


مراتب العفو:


في التاريخ الإسلامي بطولات رائعة، لمّا فتح سيدنا صلاح الدين القدس ما قتل إنساناً، بينما لمّا فتح الفِرنجة القدس قتلوا سبعين ألفاً في أيام، ذبحوا سبعين ألفاً، فلذلك العفو مرتبة عالية جداً.

1 ـ الكاظمين الغيظ:

تبدأ: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) قد تكون كالمِرجَل، لكنك تضبط نفسك، ذلك أنَّ: (الإيمانُ قيَّدَ الفَتْكَ، لا يَفتِكُ مُؤمِنٌ) وما الفرق بين المؤمن المُنضبِط وغير المؤمن المُتفلِّت؟ غير المؤمن إن أصابته إساءة ردَّ عليها الصاع صاعين، كفعل مُنعكِس شَرطي، أمّا المؤمن فعنده مُحاكمة، قد تأتيه إساءة فيعفو، وبعفوه يرقى عند الله عزَّ وجل، وبعفوه يُصلِح أخاه، إذاً باب العفو بابٌ عظيم.

2 ـ العافين عن الناس:

حالة ثانية بعد كظم الغيظ قال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ليس في أعماقه حقد ولا ألم، والإنسان كلما ازداد توحيده قلَّ غيظه، وقلَّ انتقامه، لأنه يرى أنَّ يد الله تعمل في الخفاء، وأنَّ هذا الذي أساء إليه لولا أنَّ الله سمح له لما أساء إليه، إذاً عنده مشكلة مع الله، دائماً وأبداً المؤمن يحاسب نفسه، طبعاً إذا جاءته إساءة من إنسانٍ بادئ ذي بدء يقول: ماذا فعلت مع الله حتى سَلَّط الله عليَّ هذا الإنسان؟ بل إن بعض العارفين يقول: "أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي" ، أحياناً يَسلُس قيادها، وأحياناً تُزعِج، فمن بديهيات التوحيد أنَّ المؤمن موحِّد، فإذا أصابه من إنسانٍ سوء يحاكم القضية على هذه الطريقة، لولا أنَّ هناك خللاً عندي استوجب أن يُسلَّط فلانٌ عليّ لما سُلِّط عليّ، إذاً هو يعفو، توحيده يدعوه إلى العفو.

3 ـ الإحسان:

لكن هناك مرتبة أعلى، أعلى من مرتبة (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) ، وأعلى من مرتبة (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ، المرتبة هي: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، هل تستطيع أن تقابل أحداً أساء إليك بالإحسان (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ؟ هذا هو الإيمان.
لذلك أيُّها الإخوة: أُقسم بالله العظيم، لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه نحن الآن، لما خرج من مكَّة الإسلام، من مكَّة ما خرج، كيف وصل الإسلام إلى أطراف الأرض؟! إلى الصين شرقاً، وإلى الأطلسي غرباً، وإلى أذربيجان شمالاً، وإلى اليمن جنوباً، لأنَّ أصحاب رسول الله كانوا في أعلى مستوى أخلاقي، يعني قضية الإيمان، الإيمان مرتبة أخلاقية، درجة أخلاقية، والإيمان مرتبة علمية، والإيمان مرتبة جمالية، الإيمان وصف لإنسان فذّ، بالتعبير الدقيق شخصيةٌ فذَّة لها مقاييس جمالية راقية جداً، ولها مقاييس أخلاقية راقية جداً، ولها مقاييس علمية راقية جداً، الإيمان مرتبة علمية، ومرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

أعظم نعمة أنَّ الله معنا يسمع ويرى ويعلم:


فعودٌ على بدء: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) ، يعني الله عزَّ وجل يسمع قولك إذا تكلمت، وعليمٌ بحالك إذا سكتت، وأنت ساكت عليمٌ بحالك، وأنت ناطق عليمٌ بما تقول، فلذلك قال بعضهم: " الحمد لله على وجود الله" ، الله موجود، كم من إنسانٍ مظلوم، الله يعلم أنه مظلوم، ويَنتصر له، ويُدافع عنه، وأعظم نعمة أنَّ الله معنا يسمع ويرى ويعلم. 

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[ سورة طه ]

فلذلك الله عزَّ وجل يقول: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) تكلم ما شئت، وانتقم كما تريد، واعفُ كما تريد، إن عفوت يعلم، إن انتقمت يعلم، إن كان انتقامك بمستوى الإساءة إليك يعلم، وإن زدت بانتقامك يعلم، وإن كان بالإمكان أن تعفو فلم تعفُ يعلم (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)

باب العفو باب كبير جداً:


ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)﴾

[ سورة النساء ]

قدَّمت عملاً طيباً لمن أساء إليك، هذا العمل محفوظٌ عند الله عزَّ وجل.
بداية القصة أنَّ أحد خطباء المساجد في دمشق، رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أبلِغ جارك فلاناً أنه رفيقي في الجنَّة، هذا الخطيب تألَّم وقال في نفسه: أنا خطيب، لكن المنام ليس لي بل لهذا الجار! فذهب وطرق بابه، قال له: لك عندي بشارة من رسول الله، ولكني لن أقولها لك، إلا إذا قلت لي ماذا فعلت مع ربك حتى استحقَّقت هذه البشارة؟ فلمّا ألحَّ عليه، قال له: والله تزوجت امرأةً، أظنُّها صالحة، وفي الشهر الخامس من زواجي كان حملها في الأوج، إذاً هذا الطفل ليس منه، قال له: بإمكاني أن أُطلِّقها، وكان بإمكاني أن أفضحها، وكان بإمكاني أن أركلها بقدمي، وكانَ وكان، لكن آثرت أن تتوب على يدي، وجاء بقابلةٍ وولَّدتها، وحمل الطفل تحت عباءته، ودخل إلى أحد مساجد دمشق، وبعد أن نوى الإمام فريضة الفجر، وضع الطفل الصغير وراء الباب، وصلَّى مع الناس، فلمّا انتهت الصلاة بكى هذا الطفل، فتحلَّق الناس حوله، فجاء وكأنه لا يعلم ماذا حدث، قال: خيراً، قال: انظر طفل، قال: آتوني أنا أكفله، أخذ الطفل أمام الحي، وكفله وردَّه إلى أمه.
 ليس كل الانتقام يكون لك أجراً فيه، أحياناً العفو والستر والتوبة، إذا زلَّت قدم من يلوذ به، واستطاع أن يتوب، فله أجر لا يعلمه إلا الله، من السهل أن تنتقم، وأن تفضح، وأن تكشف الأمر، لكن الله ستّير، فهذا الإنسان يبدو أنه اقتنع أنها زلة وخطأ، وهي بنت جيدة، لكنها زلَّت قدمها، وأعلنت عن توبتها، فأعانها على هذه التوبة، وبهذه الطريقة أعاد ابنها إليها، وأمام الحي هو كفِل طفلاً لقيطاً، قال له: قل لجارك فلان: إنه رفيقي في الجنَّة.
باب العفو بابٌ كبيرٌ جداً، لذلك نعود إلى أول الآية: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا(149) .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور